تكست: السنة الثانية




تكسـت – السنة الثانيـة – العـدد الواحد و العشرون – مايو/آيار 2014

لتحميــــل العدد بشكل بي دي اف

الأحد، 25 مايو 2014

تكست - العدد الواحد و العشرون - أنسي الحاجّ وقصيدة النثر - د. فريد أمعضـشو



أنسي الحاجّ وقصيدة النثر

بقلم: د. فريد أمعضـشو (المغرب).


في الحقيقة، لا يمكننا الحديث عن قصيدة النثر (Poème en prose) في الثقافة العربية دون الوقوف عند تجربة الشاعر أنسي الحاج المتميزة، في كتابة هذا الضرب من التعبير الأدبي، سواء داخل بلده أو في عموم أرجاء الوطن العربي. وهي تجربة شعرية حقيقية، اتسمت بكثير من مظاهر التفرد والعمق والنضج، وإنْ خرجت عن عَروضيِ الشعر الكلاسيكي والتفعيلي معاً. يقول جهاد فاضل: "أول ما يجب التأكيد عليه أن تجربة أنسي الحاج الشعرية، وإنْ لم تُكتبْ على أوزان الخليل وتفعيلاته، تجربة شعرية حقيقية. فأية قراءة نقدية باردة لأعماله كفيلة أنْ تضع القارئ في مناخ الشعر وحرائقه وأهواله، بل في خضمّ تجربة روحية جوّانية قد لا يكون لها نظيرٌ في تاريخ شعراء لبنان إلا عند إلياس أبي شبكة الذي عرف أقاليم النعمة والخطيئة على نحْوٍ فاجع كالذي عرفه أنسي الحاج".
وقبل الانتقال إلى تسليط الضياء على هذه التجربة وعلى بعض ما رافقها من نقد رصين مؤسِّس بيَراع الشاعر نفسِه، يحسُن بنا أن نعرّف، بعُجالة، بهذا الأخير بوصفه أحدَ أعلام قصيدة النثر العربية المبرَّزين، الذي جعل، كما تؤكد الشاعرة والكاتبة رانة نزال في كتابها الصادر حديثاً عن أنسي وإسهامه الفاعل في إرساء دعائم قصيدة النثر عربياً، هذه القصيدةَ قضيتَه الخاصة؛ فأعْمل فيها أدواته وتحدّيه وقاموسه وصوره وتراكيبه، فاتحاً بذلك آفاقاً رحيبة من المغامرة المُقترِنة لديه بالحرية؛ حرية الانطلاق بالشعر العربي إلى فضاءات دلالية ولغوية جديدة، وعدم الارتهان للنموذج الشعري المَبْني على بحور الخليل الفراهيدي وقصيدة التفعيلة... فأنسي الحاج أديب لبناني مرموق، وُلد عام 1937، بدأ نظْم الشعر، وكتابة بعض المقالات، عامَ 1954 حين كان تلميذاً في المرحلة الثانوية، ولم تُنشر له قصائد، ولاسيما من الشعر المنثور، إلا مع أواخر 1957؛ وهي السنة التي شهدت تأسيسه، رفقة بعض زملائه؛ من أمثال يوسف الخال وعلي أحمد سعيد (أدونيس)، مجلة "شعر"، ذات الدور المشهود في التمكين لقصيدة النثر في الأدب العربي الحديث، وتشجيع نشْر نصوصها على نطاق واسع، وإنْ كانت بداياتها، آنذاك، صعبة في ظل مناخ ثقافي تتبوّأ فيه القصيدة الموزونة مكانة سَنِيّة في وعي المتلقين العرب، الذين صُدموا بهذا النوع الكلامي! ولم يكن يجرؤ رواد هذه القصيدة، آنئذٍ، على وسْم إبداعاتهم، في هذا المضمار، بتلك التسمية المستفِزّة "الغريبة"، التي تنطوي على تنافر وتناقض واضحيْن، دفعا، فيما بعد، أحدَ دارسي قصيدة النثر العربية إلى وصْفها بـ"القصيدة الخُنثى"! وشكّل اطّلاعُ شعراء مجلة "شعر" على كتاب الشاعرة والمنظِّرة الفرنسية سوزانّ برنار (Suzanne Bernard) الموسوم بـ"قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا" نقطةَ انطلاق هؤلاء في استعمال مصطلح "قصيدة النثر"، وما شابهه من أسامٍ اصطلاحية، لوصْف ما يكتبون من أشعار منثورة. وعلاوة على تأثره بهذا الكتاب، وإفادته منه، فقد تأثر أنسي بشعر وشعراء أوربيين آخرين؛ كما صرّح بذلك في حوارٍ أجْريَ معه، ونُشر في صحيفة "الحياة" اللبنانية. فقد أجاب عن سؤال متعلق بالروافد الأدبية التي تأثر بها، وغذّت تجربته الشعرية، قائلاً: "أنا متأثر بشعر القرن 19 الفرنسي، وبالشعراء السورياليين وبعض أصدقائهم. معظم الأحيان أراني مُعجَباً بنثرهم أكثر من قصائدهم إلا بول إيلوار، فهو هو في كل ما كتب".
منذ الخمسينيات إلى 1994؛ السنةِ التي توقف فيها أنسي عن كتابة الشعر ليتحوّل، أساساً، إلى الكتابة في فنون أدبية أخرى كالمقال الصحافي، أصدر الحاج ستَّ مجموعات شعرية، هي: لن (1960) – الرأس المقطوع (1963) – ماضي الأيام الآتية (1965) – ماذا صنعتَ بالذهب؟ ماذا فعلتَ بالوردة؟ (1970) – الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع (1975) – الوليمة (1994). ولا يخفى على متصفح شعر هذه المجموعات ما يمتاز به من فرادة وخصوصية؛ إذ يبدو، كما يقول شارل شهوان، وكأنه "يبتعد ليُشكَّل على صورته ومثاله هو بالذات... إنه، بإيجاز، توهُّجُ الصمت النابض بحرائقه الفاتنة؛ توهجٌ يتقدم إلينا كمدينة بيضاء هائلة في الحلم". ولعل هذا الأمر هو الداعي الأساسُ إلى ترجمة أشعار أنسي الحاج إلى عدة لغات، منها الفرنسية والإنجليزية والألمانية والأرمنية. وللرجل نفسِه إسهام ملحوظ في الميدان الترجمي؛ إذ إنه نقل إلى لغة العرب عدداً من مسرحيات أعلام الدراما الأوربية؛ من مثل شكسبير وبريخت ويونيسكو. وله كتابٌ ضَمَّنَه جملة وافرة من مقالاته التي نشرها، قَبْلاً، في عدة منابرَ صِحافيةٍ، يقع في ثلاثة أجزاء، عَنْوَنَه بتركيبة "كلمات كلمات كلمات"، صدر عام 1978. وله تأليفٌ آخرُ في التأمل الفلسفي الوُجْداني بعنوان "خواتم" (3 أجزاء). وتجدر الإشارة إلى أنه قد صدرت لأنسي "الأعمال الكاملة"، عن الهيأة العامة لقصور الثقافة بمصر، في ثلاثة مجلدات.
وموازاةً مع اهتماماته الأدبية إبداعاً ونقداً وترجمةً، اشتغل أنسي الحاج بالصِّحافة منذ أواسط الخمسينيات؛ فكتب مقالات في أشهر الصحف اللبنانية، وعلى رأسها "النهار" و"الحياة" و"الأخبار"، وتولى مسؤوليات مهمة في بعضها؛ منها رئاستُه هيأة تحرير جريدة "النهار" مدةَ إحدى عشْرة سنة (1992 – 2003).
إن أنسي الحاج يعد، بحق، أحد رموز قصيدة النثر العربية وفرسانها ومؤسِّسيها، ولكنه ليس أولَ مبدعٍ فيها ولا أولَ منظِّر لها في أدبنا. فقد كتب قصيدة النثر، قبله، سليمان عوّاد وتوفيق صايغ وآخرون غيرُهما، ونظَّر لها، قبله، ناقدون غيرُه، وأقصد، بالتحديد، أدونيس. إلا أن إبداع أنسي الحاج وتنظيره النقدي في هذا الإطار كانا متميزيْن؛ ذلك بأنه أولُ مَنْ أصدر مجموعة شعرية تجرّأ على وَسْم نصوصها بـ"قصائد النثر"، وهي مجموعته المعروفة "لن" التي كان ظهورها، في مشهدنا الأدبي، صادماً، محتوىً ومبنىً، للقارئ الذي ألِفَ، أرْداحاً متطاولة من الزمن، نمطاً من الشعر يجعل الوزن والقافية عمادَيْه الأساسييْن. يقول أنسي عن تجربته الشعرية في المجموعة المذكورة: "تجربة "لن" كانت صادمة بالمحتوى مثلما كانت بالشكل. الصدمتان متداخلتان. "لن" أول كتاب يُسمي نفسَه "قصائد نثر"، لكنه ليس أول كتاب من نوعه.. ثمة أدباء عربٌ عديدون عالجوا الكتابة الشعرية نثراً، لكنهم أطلقوا على نَتاجهم مُسَمِّياتٍ مُبهمة؛ كالقِطع الوجدانية، أو الشذرات الفلسفية، أو النفحات الشعرية إلخ... من هؤلاء: أمين الريحاني، وجبران خليل جبران، ومي زيادة... تجربتي كانت بمثابة تأسيس نوع مُعْلَن وشرعي. على صعيد المضمون لا أذكره إلا أذكر دراسة خالدة سعيد عن "لن". هناك مقالات تُحتضن كالأمّ. هذه منها. لولا برهانُ الزمن لقلتُ: لولا دراسة خالدة سعيد لَما كانت "لن"...". ففي آخر هذا النص، كما هو بادٍ للعيان، اعترافٌ صريح، من أنسي نفسه، بفضل الناقدة خالدة سعيد على مجموعته المَعْنية تعريفاً وتحليلاً ونقداً، بل وعلى تجربته الشعرية ككل. وكأننا به يُقرّ بأهمية النقد الجادّ المتمكن للإبداع؛ إذ هو ضامنُ سيرورته ونجاحه ونُضْجه، وكم من إبداعات، في الشعر وفي غير الشعر، "ماتت" لعدم مواكبة الناقدين الرَّصينِين لها، ولعدم التفاتهم إليها! ومما قالته خالدة عن أنسي وشعره: "أنسي الحاج ثائر قبل أن يكون شاعراً. شعره فعلُه الثوري الوحيد. شعره بالنسبة له هو الجُنون... الجنون هو الوصمة التي يحملها مَن اختار أن يكون حُرا. لقد أقصته غرابته عن الساحة العامة. الشعر، إذن، بالنسبة لأنسي الحاج، فعلُ تحرُّر بالدرجة الأولى.. فعلُ التقاء وانتقال إلى الآخَر...".
والواقع أنه يصعب – وإنْ لم نقل: يستحيل – الحديث عن بدايات قصيدة النثر لدى العرب، والتأريخ لها علمياً، دون استحضار متون إبداعية محددة، لعل من أبرزها ديوانَ "لن"، الذي صدر سنة 1960، ضمن سلسلة منشورات مجلة "شعر"، على نفقة أنسي الخاصة، بما قدْرُه مائة ليرة لبنانية، حاوياً بين دفتيْه عدداً من النصوص أولُها "هوية"، وآخرها "حرية حرية حرية". وأعادت نشْرَه المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، ببيروت، عامَ 1982. وقد ارتأى أن يسميَ هذا الديوان بحرف ناصب يفيد معنى النفي لِمَا ألْفاه فيه من إمكانيةٍ للتعبير عن موقفه من الواقع المَوْبوء المَعيش آنذاك. يقول رجاء النقاش في هذا المُتَّجَه: "اختار أنسي الحاج كلمة "لن" عنواناً لكتابٍ من الشعر المنثور؛ لأنه وجد فيها ما يعبر عن رفضه للواقع، وتمرده عليه. ومن أقوال هذا الكاتب: "أرى الطوفان خلاص البر". إنه لا يريد سوى الخراب والهدْم الكامل للعالم الذي يعيش فيه. وبصرف النظر عن تفاهة ما في هذه الكلمات من أفكار، إلا أنها تفوح، مع ذلك، برائحة وحْشية تنبع من نفسية قاتمة لا ترى أمامها إلا القبح والحرائق والدمار والعفن".
وإلى جانب نبرة الرفض الطاغية في ديوان "لن" كله – وهو ليس صرخة رفض للرفض، كما يقول خليل رامز سركيس، بقدر ما يعني عمل الرفض في مصير الإنسان – تميزت طريقة كتابة نصوصه بخواصّ واضحة لغة وتصويراً وأسلوباً وإيقاعاً وبناءً. إنها كتابة غير مألوفة في العربية، ذات جماليات أخرى، أسَّست لشعر جديد في تربة الأدب العربي المعاصر استمد مقوماته الفكرية والفنية من صميم الواقع الماثل أمام المبدع، ومن انفتاحه الواعي على شعر الحداثة الغربي. فلُغة "لن"، كما يقول أحدهم، "تفيض على نفسها، مثقلة بإشارات الرفض والنفي والتمرد، قائمة على لذة خلخلة الاستعارات، وإرْباك الترابط المنطقي بين الجمل، واللعب على تنويعات اللون والصوت والإيقاع". وكان قد أنجز بول شاوول دراسة نقدية عميقة عن شعر أنسي الحاج وجماليته ولغته القائمة على أساس تفجير النسق اللغوي المألوف وتثويره ليستوعب تحديات اللحظة الحضارية الراهنة وإشكالاتها، وليستجيب لرهانات الشعر العربي المعاصر المنفتح والمتفاعل مع الأشعار الأخرى... خَلَصَت إلى جملة نتائج؛ منها أن أشعار ديوان "لن" لأنسي "تلك الحركة الخارقة، من تصادم الصور بالصور والكلمات بالكلمات والكلمات بالصور، والتي تلف الجزء الأكبر من "لن"، وخصوصاً الجزء الأول، رغم عدوانيتها اللغوية، كأنما في سفكها الطازج للمتراكِم والراسب والعادي والشائع، تخبّئ وصولا جمالياً خاصا، يرسو في بقعة جمالية تتجاوز المد المخرِّب الزاجر الهادم إلى بناء لغوي – شعري متهيّئ وفاتح.
القصيدة ترفع الخراب (العدوانية) والتمرد والرفض، تطحن الكلمات لتسحب منها نشيداً.. نشيداً حيّاً لا يلبث أن ينتقل، في الجزء الثاني من "لن"، من الأشكال الجسدية والحواسّ المستنفرة في فجاجتها إلى الأشكال المجردة والغنائية، ذات المد المُسْتلين على حدة، ليبرُز نوع من "التأليف" هو أقرب إلى كتابة ترجمة جوّانية للتجربة الإنسانية والنفسية، حيث يطل نفَس تأملي عالٍ وفاجع، كأنما بعد تلك الرحلة المحمومة والمجنونة تراكمت كل اللحظات في لحظة درامية متفجرة وقف فيها البطل في خراب الزمن ليتلوَ نهاية المَرْثية أو بدايتها".
وفي السياق نفسِه، عَدَّ عباس بيضون، وهو من كتاب قصيدة النثر كذلك، "لن"، ومعها مجموعة أنسي الثانية، متناً مُفارقاً ومتميزاً في اللغة العربية، نُسجت نصوصه بطريقة كتابية مضادّة للغة السائدة المعهودة، وصادمة لذائقة المتلقي ولأفق انتظاره، مما يجعل أمر تناولها بمقاييس الأدب المألوفة غيرَ ممكن، بل غير مُجْدٍ أصْلاً! يقول: "إن "لن"، و"الرأس المقطوع"، حدثٌ في اللغة العربية لم تستوعبْه بعدُ؛ أي لم تحوّله إلى تاريخها وتراثها. فهنا كتاب مضادّ للأدب، وكتابة لا يمكن أن تُتناوَل بالمعيار الأدبي أو تقاس به... هي دعوة لجمالية أخرى لم يكن في وُسْع الجملة العربية المُقنّنة المقطّرة المعلّبة أن تقبلها.. كتابة تتم في تجاهل تام للأدب المكتوب بحقليْ ألفاظه ودلالاته.. بصلته بالمادة الأولى.. بقيمته المتضمّنة. هنا يسقط الحيز الأدبي نهائياً فيتدفق قاموساً ومجازات لم تكن ألبتة في الاحتمال. وهنا تبقى الكتابة على صلة بالفم والعصب؛ فتتسع لنصٍّ يستمد إيقاعه من توتر داخلي، ومن نضارة اللغة الشفوية ومفاجآتها".
إن ديوان "لن" أثرٌ إبداعيّ حافَظ على راهنيته، ولم يظلَّ أسير لحظته الزمنية، ولم يخضع لمنطق التقادم، بل إن كرور الأيام، وتوالي العقود، لم يكونا ليَزيداه إلا تألقاً وسحراً. ومرَدُّ ذلك كله إلى تميزه شكلا ومضموناً، وإلى ملامسته أسئلةً تعلو على الزمان والمكان معاً لتعانق الكوني والمشترَك، ولتعبِّر عن موقف الإنسان ممّا حوْله. قال عبده وازن عن هذا الديوان، عام 1995: "بعد خمسة وثلاثين عاماً على صدور كتاب "لن" أقرأه كما لو أنني أقرأه للمرة الأولى. كأن الأعوام التي مرت عليه لم تزدْه إلا تألقا وحِدّة وسحراً، بل كأن الشاعر "المراهق" آنذاك لم يكتب كتابه الأول إلا ليُقرأ في ما بعد، ليظلّ يُقرَأ جيلاً بعد جيل... ومَنْ يقرأ الآنَ "لن" لا يصدّق كيف أن ابن الثانية والعشرين استطاع أن يخوض تجربة جحيمية مماثلة، وأن يكون واحداً من "المصابين" الذين خلقوا عالم الشعر العربي الجديد...
بعد خمسة وثلاثين عاماً على صدور "لن" نقرأه اليومَ وكأنه كُتب للفَوْر، أو كأنه سيُكتب غداً... وسيظل "لن" كتاباً فريداً ونادراً في تاريخ الشعر العربي الحديث، بل تجربة يتيمة يصْعب أنْ تتكرّر لا لفرادتها ونَدْرتها فقط، بل لطابَعها الخارق والعجيب".
ولم تقتصر الشهرة على نصوص "لن" الشعرية المنثورة، بل اشتهرت أيضاً، بالقدْر نفسِه أو أكثر، تلك المقدمة النقدية التي كتبها أنسي الحاج لهذا الديوان، والتي – على قِصَرها – حفلت بعدد من القضايا الأدبية والنقدية. إن هذه المقدمة بمثابة "بيان" أعلن ميلاد قصيدة النثر العربية رسمياً، وأعطى – بالتالي – شارة انطلاق لحظة الحداثة الثانية في شعرنا المعاصر، بعد لحظة الحداثة الأولى مع جيل نازك والسياب وأمثالهما من عمالقة القصيدة الحُرّة في أواسط القرن الماضي. ويلزمنا، نحن القراءَ، حين العَمْدِ إلى قراءة تلك المقدمة، مراعاة السياق العام الذي أفرزها بكل تحدّياته ومتطلباته، حتى نستطيع إدراك أسرار الطريقة التي صيغت وَفقها. وقد أوْمأ أنسي نفسُه إلى ذلك حين قال: "لو وضعتُ مقدمة "لن" اليوم لكُنتُ سأكون أكثرَ ليونةً، وكان هذا سيكون خطأ!".
ويحلو لبعضهم مقارنة هذه المقدمة المؤسِّسَة للحداثة الثانية (قصيدة النثر) بمقدمة نازك الملائكة لديوانها "شظايا ورماد" (1949)، بوصفها أسَّست للحظة الحداثة الأولى في شعرنا المعاصر (قصيدة التفعيلة)، طبْعاً مع وجود فوارق بين المقدمتين – الحداثتيْن. يقول ماهر شرف الدين، في مقالٍ نشره في العدد 24 من مجلة "الغاوون" (شباط 2010): "في الحقيقة، فإن المقارنة بين المقدمتين تُقنِعنا، بما لا يدع مجالاً للشك، بأن المقارنة الصحيحة يجب أن تقوم بين حداثتين (التفعيلة وقصيدة النثر)، لا بين شاعرين (الملائكة والحاج). والفارقُ هنا ليس مُصطنَعاً بالطبع. فالحداثة الأولى (التفعيلة) قدّمت نفسَها كامتداد طبيعي وسَلِس للتراث، لا بل إن نازك الملائكة جَهَدَت لتجد جذوراً ضاربة لها في هذا التراث (شعر البند). بينما جاءت قصيدة النثر اسْتفزازية، غير هيّابة، وغير مُكترثة بمسألة الجذور كلها، بل إنها قُدّمت – تقريباً – كإنتاج طبيعي لترجمة الشعر الغربي وشعرائه الكبار.
وما قالته الملائكة بـ"لا" قاله أنسي بـ"لن".. قاله بالمؤكّد، لكن الضبابي.. بالحاسم، لكن غير الواضح.. بالجازم، لكن المفتوح.
ومثلُ هذه الخلاصة يمكن معايَنتها، في أجْلى صُورها، من خلال المقارنة بين مقدمتيْ "لن" و"شظايا ورماد". فقد كانت مقدمة الملائكة مقدمة تقديم الأجوبة، بينما كانت مقدمة الحاجّ مقدمة طرْح الأسئلة. كان همُّ نازك الملائكة طمْأنة الناس والشعراء، في حين كان همُّ أنسي الحاج إقلاقهم واستفزازهم وقضّ مضاجعهم.
وفي هذا الفارق بين مقدمة الأجوبة ومقدمة الأسئلة، يبرز الفارقُ بين الحداثتيْن: بين حداثة استيعابية وحداثة استفزازية، بين حداثة تطمين وحداثة تقليق، بين حداثة مسيّجة وحداثة مفتوحة".
إن أنسي الحاج يعدّ، إذاً، من أقطاب قصيدة النثر في الوطن العربي إبداعاً وتنظيراً، ومن رجالاتها الأعلام الذين لا يمكن لدارس هذه القصيدة إغفالهم أو غضّ الطرْف عنهم لدى إرادة الحديث عن هذه الأخيرة. فمنذ الخمسينيات إلى أواسط التسعينيات، راكم أنسي إبداعات في الشعر المنثور لا يعدم أيٌّ منها النضج والاكتمال الفني، وأبَرَزَ هذا المخلوق الأدبي الحَداثيّ في أبْهى الصور وأرْقاها، مُلحّاً على صلاته الوُثقى بالواقع بكل تلاوينه وتمظهُراته وأبعاده، حتى اغتدت قصيدة النثر معه "أطروحة العالم الطالع"؛ على حد عبارة منيف موسى. وغيرُ خافٍ على أحدٍ من قراء هذه الإبداعات مدى تميُّزها، ممّا كان سائداً في الساحة الشعرية العربية يومئذٍ، رؤيةً ولغةً وصياغةً فنيةً، وحجمُ تجديدها لقصيدة الوزن وثورتها عليها من جميع الجوانب. إنها، بإيجاز، تعكس تجربة إبداعية مُشاكِسَة ومغايرة غير معهودة لدى أبناء العربية. بقول عابد إسماعيل عن أنسي راصداً أهمَّ مظاهر تجديده للقصيدة العربية مضموناً وشكلاً: "إنه يطور رؤيا شعرية جديدة، تتجاوز نسقَ القافية والتفعيلة والوزن، وتنويعاتها الأسلوبية والفكرية، مُقتحِماً متاهات النثر ومباغتاته الخفية. يكتب الشاعر محوره المتواصل كمبشِّر مؤسِّس للحداثة الشعرية العربية، إلى جانب أدونيس ويوسف الخال اللّذيْن أسَّس معهما مجلة "شعر" عام 1957، هارباً من التنميط والقوْلبة، وناسفاً المسافة بين الوزن والإيقاع، الشعر والقصيدة، الجسد واللغة؛ فيندفع بقوة اللعنة الكامنة في اللغة الخرْساء ليُعلن أن "الملعون يضيق بعالم نقيّ"، ذلك أن القصيدة ينبغي أن تتكلم خارج أعراف الطهارة، وخارج قواعد اللسان الجاهز؛ لأنها تتطلب الاغتسالَ الدائم من الماضي، والتحْديق في عين العَدَم، ومكابدة المُفارَقة القصوى التي سمّاها الشاعر الإنكليزي كيتس، عام 1817، في وصْفه لشعرية شكسبير، "الاستطاعة السَّلبية" (Negative capability)؛ وتعني مُعايَشة الشاعر للشكوك والحيرة والأسرار، من دون أن يزعج نفسه بالوصول إلى الحقيقة، مكتفياً بالتحديق في مرايا الهاوية".
ومنذ جيل أنسي المؤسِّس إلى اليوم، حققت قصيدة النثر لدينا مكاسب ملحوظة كمّاً وكيفاً، وسارت في مسارات عدة، وفتحت لنفسها آفاقاً كثيرة، واستقطبت قطاعاً عريضاً من المبدعين، ولاسيما الشباب منهم ذكوراً وإناثاً، وبلغت بتجديد القصيدة العربية حدوداً بعيدة على مستويي الرؤيا وآليات التعبير الفني. وقد وصف أنسي ما تحقق لقصيدة النثر العربية، في أحد الحوارات المُجْراة معه مؤخراً، ردّاً على سؤال وُجِّه إليه نصُّه: "هل حققت قصيدة النثر في لبنان والعالم العربي ما أردتم لها أن تُحقق على صعيد اللغة والتعبير عن هموم الإنسان المعاصر؟"، فأجاب بالقول: "لا أحبّ التعميم. الشعر هو الشعراء.. هو الشاعر. بعضُهم فتح أبواباًَ وآفاقاً مُدْهشة. بعضهم نصيبُه أقلّ. وهناك أجيالٌ جديدة أضافت إيقاعاتها ولا تزال في طور التشكل. أما همومُ الإنسان، المعاصر وغير المعاصر، فهي من بديهيات التكوين الشعري، ولا حاجةَ لإعلانها في مشروع. جلُّ ما يُطمح إليه في هذا المجال هو أنْ يجد الشاعر اللغة التي تُماشي إيقاعات وُجْدانه، وتعانق تجاربه ورُؤاه وعواطفه وأحلامه. إن أهمّ ما حققته الكتابة الحديثة، وبينها قصائد النثر، هو أنها تجَرَّأت على أنْ تتقمَّص ذاتها". ولئن كان الإقبال على هذه الكتابة الجديدة مؤشراً إيجابياً يَنِمُّ عن تقبل هذا النَّتاج الأدبي الحداثيّ، إلا أنه، أحياناً، يصير موضع تحفظ وتحوُّط حين يقتحم غمارَه مَنْ لا يتحكم في إوالياته، ولم يستوعبْ بعدُ عمقه وجوهره؛ فيسقط ما يخُطُّه قلمه من كتابة، في هذا الإطار، في مهاوي الركاكة والابتذال، بعيداً عن الشعرية. والذي يأسَفُ له أنسي أن كثيراً ممّا يُنتج اليوم، على أنه قصائد نثر، ليس من هذه الأخيرة في شيء! ممّا جعله يدعو المبدعين الشعراء إلى الرجوع إلى كتابة قصائد الوزن ما داموا غير متحكِّمين بعدُ في تقنيات كتابتها، وغير فاهمين، بما يكفي، روحَها وخَوَاصَّها الدقيقة. وقد جاءت دعوته هذه، بصريح العبارة، في مقاله، المنشور حديثاً، تحت عنوان "دعوة إلى الهرْطقة"؛ حيث دعا الشبابَ إلى معادوة كتابة الشعر الموزون ما دامت قصائد النثر التي تكتسح المشهد الإبداعيَّ العربي، اليوم، قمةً في الرداءة والضحالة والإسْفاف والفوضى والتخبُّط. وعزا ذلك، في المحلّ الأول، إلى غياب النقد العليم الصادق. يضاف إليه، طبعاً، عدمُ اطلاع أولئك الشُّبّان، مسبّقاً، على النقد النظري المكتوب حول قصيدة النثر، وعدمُ اختمار تجاربهم واكتمال استعدادهم لخوْض غِمار هذا الفن الشائك، وما يتيحه الإعلام المعاصر وثمارُ التكنولوجيا الحديثة من إمكانات غير مسبوقة في مجال النشر على أوسع نطاق.
ولم يكتفِ أنسي، كما أسْلفنا القيل، بكتابة قصيدة النثر، بل خَصَّها بمقالات وأبحاث نقدية جادّة رامت تقنينَها والتنظير لها، في وقتٍ لم تكن فيه الذائقة العربية تعرف شيئاً ذا بال عنها! ولعل أبرز ما دَبَّجَه الحاج في هذا الاتجاه ذاك التنظيرُ الذي ضَمَّنَه مقدمته النقدية النفيسة التي صَدَّر بها ديوانَه الأول.. هذه المقدمة التي جاءت "شديدة الصقل، مدوّنة بحبْر الرغبة، أرْسَت مشروعية أولى لقصيدة النثر العربية، التي طالما اعتبرها النقد التقليدي هَجينة، ومارقة، وفوضوية، ومُراهِقة، وملعونة، وثائرة، ولاتاريخية" (عابد إسماعيل).
وبهذا كلِّه، يتضح لنا عِظَمَ إسهام أنسي الحاج في ميدان الشعر المنثور العربي إبداعاً ونقداً؛ ممّا أهّله لأنْ يكون، بجدارة، واحداً من رموز هذا الشعر الذين جدّدوا القصيدة العربية وعَصْرَنوها واجترحوا منها قصيدة حداثية مغايرة ومشاكسة ومنفلتة و"مفتوحة عابرة للأنواع"؛ كما ذكر الناقد عزّ الدين المناصرة في كتابة "إشكاليات قصيدة النثر" (2002).