قصـــــــة قصـــــيرة -
حلـــــــــم أحمــــــــــق
* أحمد المــــــــؤذن
سألني صديقي عباس عن سبب توقفي . أخبرته أن نعالي المهلوكة أنقطعت من جديد
، ماذا أفعل ؟ أجدني مضطراً للذهاب معه ،
وجهتي مكب القمامة وهذه المغامرة . يقول صديقي أن في هذا المكب فرصا جيدة للكسب ، هناك أشياء كثيرة
!
حديثه المشبع بالمزيد من التفاصيل جعلني أتقد حماساً ، أصلحت النعال ثم
واصلت السير وأنا أحلم بتلك الأشياء التي رسمها لي في مخيلتي .. أسلاك نحاسية ،
ملابس مستعملة ، كراسي حديدية ، دفاتر ومجلات أجنبية ملونة تتزاحم فيها صور
الحسناوات ! أي شيء يمكن أن يكون ملقى
هناك ، حيث شاحنات البلدية لا تتوقف عن العمل وهي تنقل أطناناً من القمامة .
أخبرني أيضاً بأنه في الأسبوع الماضي ، كسب ثلاثة دنانير من آخر زيارة ، هي
بعض الحاجيات التي تصلح للبيع ، ترميها الناس ، فتكون لنا رزقاً نحن ابناء الشقاء
المطحونين ! هه أخبرتكم في بداية القصة بأنني مضطر ولكن ..
رغم تعب المسافة وبعدها ، نمشي تحت لظى هذه الشمس الصيفية الضارية ، سنواصل
ونصبر ، لو يكسب المرء ديناراً أكثر أو أقل فالتعب أمره يهون . سأشتري نعالا جديدة
وآكل طبق خضراوات بالدجاج وقد أشتري فانيله بلوني المفضل . أحب اللون الأخضر وأحب
الحياة وكم أستعجل مرور الوقت ، يكون ثقيلا ً حينما تبدأ حصة التربية الإسلامية .
ذاك المعلم العربي ، ما ترك شيئاً في هذه الدنيا إلا وطوقه بالطبشور الأحمر بين
هلالين ( حررررررام ) ؟!! حتى شعرت أن الرجل بصدد ابتداع مذهب إسلامي غارق في
تشدده وظلاميته ، مذهب يتناسب ومقاييسه الفكرية المتطرفة ولحيته التي تزداد طولا ً
، فتقلق نفوسنا أكثر .
فليذهب وشأنه .. بالنسبة لي ، أريد الحصول على أشياء كثيرة يحلم بها فتى
مثلي . جهاز (هِتفون) مع شريط كاسيت
للفنان عبد الحليم حافظ ، أتمشى حتى الشاطىء وأحلق عالياً تحملني نشوة النغم
وأيضاً ..
أيقظني من حلمي وهو يهتف ( وحيد ) !
حدقت حيث تشير يده وإذ بها سيارة البلدية هنا في المكان حيث وصلنا ، كانت
تفرغ حمولتها النتنة ، وكان محرك الديزل يهدر صاخباً . الحمولة القذرة تفترش أرض
المكب ، تعاجلها قبائل الذباب والصراصير وتحوم حولها طيور النورس التي تخلت عن
زرقة البحر وجاءت تقتات القمامة ! اللعنة
.. صرصار تسلل إلى داخل سروالي ، رقصت خائفاً بينما عباس هجم على كومة الأوساخ
يسبقني باحثاً عن غنائمه . سائق سيارة البلدية كان يرمقنا في نظرة أسف وتقزز ،
نصحني صديقي أن لا أكترث به أو يساورني أيما إحراج فالرزق يحتاج خفة الحركة .
حسناً ها أنا ذا أبحث هنا عن يساري وقليلا ً عن يميني ، أين هي تلك الأشياء
التي تكلم عنها ؟ حطام أخشاب وأنقاض بناء ، عبوات بلاستيكية ، إطارات سيارات ،
زجاجات ويسكي فارغة مصدرة من وراء البحار ، حفاظات أطفال مملوءة بالــ .. تغزو
الرائحة أنفي يستفز احشائي وأكاد اتقيأ . لاشيء هنا يستحق العناء آه ه ه ه ه ،
حرارة الشمس لا ترحم وصديقي عباس يحدق الى هذه الفوضى الوسخة بعينين غبيتين
وابتسامة بلهـــــاء ، بالرغم من أنه مثلي لم يجد شيئا! وها كلانا صيد سهل لهذا
الشواء الصيفي ، الحرارة تكاد تقتلني هكذا بلا طائل . أطلب منه ان نغادر المكان ولا يرد عليّ ، ولما
زاد إلحاحي صاح في وجهي ينهرني ، يستمر في نبش القمامة مثل المجنون .
أوف .. هذه بقرة لكنها لا ( تسر الناظرين ) بما فيهم هذا الهندي أخذ مسافة قريبة منها وهو
يحدق غاضباً (يبربر ) في لغته كلاماً لا أفقه منه شيئا ، ثم أنحنى على ركبتيه دامع
العينين . كانت منتفخة والدود يندلع بالالآف من بين فمها المفتوح على الموت ثم
تقدمت خطوة واحدة و.. هوت الأرض من أسفل قدمي ، شيء ما سحب جسدي فجأة !
حفرة ما أدراني بعمقها وكيف وقعت فيها ؟ مرت لحظات من الخوف ، قلبي يلهث من
أثر المفاجأة ، اطمئنوا فلم أصب بسوء ، أنا بخير وها صراخي كأنه في مساحة العدم ،
الأرجح أن عباس لا يسمع صوتي أستغيث به وهو لا يدري بي . يا لها من ورطة ، لا فرق
هنا عند غبي هو أنا ، ليتني لم ..
كيف جئت معه ؟ هرولت خلف أوهامه الملونة ، شاركته حلما أحمق كما تسلقنا سور
المدرسة معاً . آه يا أمي ، ربما كسرت ساقي !
لا أعرف تماماً ماذا أفعل غير تكرار صراخي وقد بح صوتي وتكاثر يأسي . مأزق كريه الرائحة مثل هذا المكان ، ربما أموت
فيه ، فبكيت مثل أي طفل كان واثقــــاً أكثر مما يجب ، من مراهقته الورقية المبكرة
!! أتمنى أن يلتفت لي ذاك الغريب إن لم يكن صديقي عباس يسمعني ، لطفك يا ربي و
رحمتك .