تكست: السنة الثانية




تكسـت – السنة الثانيـة – العـدد الواحد و العشرون – مايو/آيار 2014

لتحميــــل العدد بشكل بي دي اف

السبت، 17 مايو 2014

تكست - العدد الواحد و العشرون - محمد طالب محمد وحدائقه المزروعة بالأحجار والنسيان والموت ...كتب فاروق مصطفى



محمد طالب محمد وحدائقه المزروعة بالأحجار
والنسيان والموت
    فاروق مصطفى   
عندما قبلت في كلية الآداب / جامعة بغداد كنت حائراً في الانتساب إلى واحد من هذين القسمين : اللغة العربية أو اللغة الانكليزية ، لأنني كنت أهوى اللغتين وآدابهما وكنت متفوقاً في المادتين المذكورتين في المرحلة الإعدادية . بادئ ذي بدء داومت في قسم اللغة الانكليزية ولكن ظل حنيني يتجه دائماً إلى القسم العربي ثم قررت الانتساب إليه وفي أول يوم من دوامي فيه وأنا في إحدى قاعات المحاضرات لفت نظري شاب يملك شعراً كثيفاً وله سالفان طويلان يمتدان على طول الأذن ، في الفرصة تم التعارف بيننا " محمد طالب محمد " من البصرة ، ومن هذا اليوم بدأت صداقة متينة لم تنقطع وشائجها ، وإنما كانت تقوى وتشتد وبالأخص عندما تجايلنا في الجزائر ونحن في بعثة تدريسية هناك سكنا في بيت واحد لعام ، وعندما تأهل سكن بيت زوجته ، وكان قريباً من سكننا القديم وتعمقت الصداقة بيننا بمرور الأيام ، وكان من النادر أن يمر يوم دون أن نلتقي فيه ، ففي كل مساء أجمع أوراقي وأصعد إلى العمارة التي قطنها ، ففي الطابق السادس كنا نطل على جبال قسنطينة المكسوة بالأحراج ثم نتناول الكتابات الشعرية وهو يطرب لإلقائي وهكذا قرأنا سوية أشعاره التي جمعها فيما بعد في ديوانه الشعري البكر الذي حمل عنوان : " التسول في ارتفاع النهار " هذا الديوان الذي طبعه في العراق عندما عدنا إلى أرض الوطن بعد انتهاء عقدنا التدريسي المبرم بين الحكومتين العراقية والجزائرية والتي استمرت طوال ست سنوات من 1968 إلى 1974 ، عدت إلى كركوك وعاد هو إلى مدينته البصرة ولكن في العطلة الربيعية لعام 1975 تواعدنا الالتقاء ببغداد ونزلنا في فندق السولاف المطل على ساحة حافظ القاضي ، أهدى ديوانه المذكور لي في ذلك المساء البغدادي المصادف 27/1/1975 وذهبنا أنا ومحمد طالب إلى نادي اتحاد الأدباء والتقينا بزميلنا القديم الشاعر فوزي كريم فثلاثتنا زملاء في كلية الآداب / قسم اللغة العربية وكنا ندرس في نفس الفصل ، أمضينا تلك الأمسية البغدادية الناعمة في إمطار ذكرياتنا عن زملائنا الجامعيين ونشدان أخبارهم وهمومنا الشعرية والكتابية وبعد عدة ساعات خرجنا نتسكع في شوارع بغداد وليلها الشتوي وأنسامه الباردة الهابة من صفحات النهر تصافح وجوهنا ، أوينا إلى فندقنا ، وعندما أصبح الصباح فلا بد من مفارقة صديقي لأنه كان في طريقه إلى الجزائر حيث قرر مغادرة العراق حتى يلم شمله مع عائلته التي تركها في " قسنطينة " الزوجة وابنهما البكر في ذلك الوقت " رافد " ثم اتصلت بيننا الرسائل وعرفت أنه تعين في بلدة " الطاهير " القريبة من مدينة " جيجل " الساحلية وإذا عدنا إلى ديوانه       " التسول في ارتفاع النهار " وجدنا وزارة الأعلام ساعدت على نشره وطبع في مطبعة الغري الحديثة في مدينة النجف الأشرف ، وضم بين صفحاته اثني عشر نصاً سبعة من هذه النصوص حملت عناوين تتألف من كلمة واحدة مثل : السياحة ، مدن ، المعضلة ، الفتوح ، نكد ، النعامة والرحلات أما بقية النصوص فحملت العناوين التالية : أمام البوابة الشرقية ، التسول في ارتفاع النهار ، مقتطفات من ميناء منسي ، شرقي عدن ، وثنائيات بلا أبعاد . والنصوص كلها مكتوبة في الجزائر أوائل 1972 وأواخر 1973 ولا أدري لماذا لم ينزل الشاعر في ديوانه نصوصه الشعرية الأخرى والتي كان قد نشرها في المجلات : مواقف ، الكلمة : والأقلام يقول " محمد طالب في نصه الموسوم " المعضلة "

أنفذ بلباسي
أتعرى
اغطس في الماء
الراحل عبر البلدان
في هجرته العظمى
لا . من يذكرني
غير الجسد المثقل بالأحلام

وشاعرنا " محمد " في نصوصه المذكورة يتوغل في صحاراه الشاسعة وهو يتخبط بين رمالها مثقلاً بأحلامه ومدججاً بكوابيسه باحثاً عن منفذ للخلاص من هذه المتاهات التي تمتد وتمتد وكأنه عبرها يتنبأ بمصيره الفجائعي الكارثي الذي انتهى مقتولاً على يد مجهول من العصاة المتطرفين في بلاد الجزائر وبالقرب من المدرسة التي كان يعلم فيها ولا أعرف بالضبط ملابسات مصرعه وإنما تناهت إلي شذرات من هنا وهناك ، سمعت أول مرة عن طريق الشاعر والناقد " عبدالرحمان طهمازي " الذي كان أخبر شقيقي الدكتور فائق مصطفى وبعد ذلك عن طريق بعض الزملاء من البصرة الذين جايلتهم في القطر الجزائري وبعد ذلك قرأت الخبر في مجلة " اللحظة الشعرية " التي يصدرها الشاعر فوزي كريم وكان قد نشر له ثلاث قصائد في العدد السابع الصادر عام 2001 ، ومعها آخر رسالة بعثها محمد طالب إلى فوزي كريم قبل مقتله يخبره فيها : أقيم حالياً في مدينة قريبة من جيجل في الساحل الشرقي من الجزائر وتزوجت من هنا وعندي خمسة أبناء ثلاثة أولاد : رافد ، فرات ،وأنيس وابنتان : صبا و نجد ، وقد أصدرت في العراق مجموعتي الأولى التسول في ارتفاع النهار سنة 1974 ، وصدرت لي في دمشق مجموعتي الثانية " متاهات لا تنتهي " من اتحاد الكتاب العرب ، ففي قصيدة " الظمأ " المنشورة في " اللحظة الشعرية " يعزف " محمد " على الأوتار نفسها ويتحدث عن متاهاته وضياعه ومنافيه ، وكأن النص يكمل نصوصه القديمة التي وزعها على كتابه " التسول في ارتفاع النهار "

هذا المنفى الحافل بجذوع الأشجار المتحجرة
منذ الحقب الأولى
الحافل بالموتى والآبار الناضبة
وأوهام صداع مطبق
وحدائق مزروعة
بالأحجار وبالنسيان وبالموت

ولا بد من التنويه بكل نبل وامتنان إلى الأستاذ " جميل الشبيبي " عندما ذكر " محمد طالب " في مقالته المنشورة في ملحق طريق الشعب ، الطريق الثقافي بتاريخ 31/أيار/2007 تلك المقالة التي حملت عنوان " من تاريخ التجمعات الثقافية " مقهى هاتف في البصرة عام 1965 ، فقد استذكر صديقه " لقد انتظمنا ضمن حلقة أدبية عضوية لم ترتق إلى تنظيم أدبي أو ثقافي ، كانت دائمة الانعقاد في هذه المقهى خصوصاً يومي الاثنين والخميس وقد بدأت هذه الحلقة بمجموعة أدباء كان بعضهم من رواد المقهى الدائميين كالشاعر محمد طالب محمد وصديقه عبود عذافه ، ويتحدث في مكان أخر من مقالته عن شاعرنا " محمد " وينعته " ذلك الطافح بالحيوية " أكثرنا حضوراً وسطوعاً في مقهى " هاتف " متألقاً ومشغولاً أبداً بالحياة ، كان مغرماً بلعبة البليارد وبالتعليقات الساخرة التي يبتكرها وينثرها يومياً على رواد المقهى ، أما مصيره فكان مروعاً حين قتلته أيدي المتعصبين في الجزائر قرب المدرسة التي يدرس فيها أوائل تسعينات القرن المنصرم .
كم أسعد وأمتلئ حبوراً عندما أجد صديقاً من أصدقائه الذين جايلوه في البصرة يتصدى لجمع ما أمكن من تراث " محمد طالب " والاتصال بأقاربه الموجودين هناك لجمع نصوصه ورسائله وصوره وكتاباته المختلفة وأنني متأكد من عدم وجود أشقاء له وربما كانت لديه شقيقات ولا أعلم إذا كن يعشن في البصرة أو تركنها إلى بغداد المهم أن تراث هذا الإنسان الذي كان أصيلاً في كل شيء يجب أن يحافظ عليه من أي تلف أو ضياع ، لقد عشت معه خمس سنوات في مدينة " قسنطينة " أما في عامنا الأول هناك فلم نلتق حيث كان تعيينه في مدينة " سكيكدة " الساحلية وأنا في مدينة " كالما " القريبة من مدينة " عنابة " تشاركنا في سكن وجمعتنا أيام السراء والضراء ، ولم تشرق شمس أي يوم من غير أن نلتقي فيه ، لقد سكرنا كما ينبغي وتسكعنا في أقاليم الليل الجزائري وقرأنا من الكتب حتى النخاع وتجولنا في المدن الأفريقية بحيث كان النهار يونع في الليل ، و " محمد " قلب إنساني يمد موائده وينشر فوقها ألوان نبله وتصانيف وفائه ، وكم أحس بالتضعضع والخواء وأنا لا أستطيع أن أفعل شيئاً مهماً في أحياء ذكرى هذا الإنسان ، هذا الشاعر هذا القلب الذي حمل الغابات والأنهار والغناء والوفاء الدائم للإنسانية كلها .


إحالات
1- التسول في ارتفاع النهار / محمد طالب محمد / النجف الأشرف 1974
2- مجلة " المدى " العدد 32 عام 2001
3- من تاريخ التجمعات الثقافية /جميل الشبيبي /الطريق الثقافي ـ الخميس 31/أيار/2007