تكست: السنة الثانية




تكسـت – السنة الثانيـة – العـدد الواحد و العشرون – مايو/آيار 2014

لتحميــــل العدد بشكل بي دي اف

الجمعة، 16 مايو 2014

تكست - العدد الواحد و العشرون - دلالات العنوان في أعمال باسل الشبيب الرمضانية: مقاربة نصية كتب د. رمضان مهلهل سدخان



دلالات العنوان في أعمال باسل الشبيب الرمضانية: مقاربة نصية
د. رمضان مهلهل سدخان
1. توطئة
       ان عنونة الاعمال الأدبية، بغض النظر عن جنسها ونوعها، تعدّ من التقاليد والأعراف التي تجعل هذه الاعمال توصف بالأدبية، ذلك لأن العنوان ليس مجرد كلمة او عبارة تتقدم متن العمل وتوضع هكذا بشكل غير مدروس، بل تخضع الى مقاييس الجمال والعذوبة والملائمة كونه العتبة الاولى للدخول الى معمار النص. ومن بين اهم الاسباب التي تجعل الكاتب يعنون عمله بهذا العنوان او ذاك تكمن بالدرجة الاساس في اعطاء القاريء وسيلة مباشرة يشير بها الى العمل من خلال هذا العنوان بحيث يصبح علامة مسجلة له، اي انه هنا يؤدي وظيفة التسمية والتعيين والتجنيس. فضلا عن ذلك، ان العنوان، كما سلف القول، لايخلو من العنصر الجمالي، فمثلا لو ان الشاعر إليوت سمّى قصيدته "الأرض اليباب" بـ "مابعد الحرب"، لأنصرف تفكير القاريء الى انها مجرد قصيدة تاريخية وليست رمزا لقحالة الانسان الحديث وتصحّره. ونفس الشيء ينطبق على مسرحية مكبث لشكسبير، فلو سميت بـ "زوجة الملك" او "السيدة مكبث"، لتمّ فهم المسرحية بشكل مختلف. اذن، العنوان هو بوصلة العمل الأدبي، قصيدة كان ام مسرحية ام فلما سينمائيا ام مقطوعة موسيقية ام لوحة فنية وما الى ذلك. فهو يشير الى كيفية فهم العمل ككل والتعاطي معه، وبالتالي كيفية قرائته. وهذا يعني ان الاهتمام بالعناوين والعناوين الفرعية يكون جوهريا في عملية الفهم والتقييم والتأويل. ذلك لأن العناوين تنطوي على دلائل لتأويل العمل الأدبي، وتوجّه المتلقي في طريقته في الاستماع او المشاهدة او القراءة، وبالتالي تؤشر الى كيفية استيعاب ذلك العمل وادراكه على نحو امثل. العنوان، وفق هذا التصوّر، هو نص آخر او نص موازٍ او نص مصاحب حسب تعبير جيرار جينيت في كتابه (عتبات، 1987) الذي يشير فيه الى عدة عتبات قبل الولوج الى متن العمل نفسه، وأولى هذه العتبات هي العنوان تليه عتبات اخرى مثل العناوين الفرعية والمقدمات وكلمات الناشر والإهداءات وغيرها. لكن في الاعمال التلفزيونية تختلف هذه العتبات من حيث عددها ونوعيتها وطريقة عرضها، فتشمل مثلا، اضافة الى العنوان، التايتل، اسم الكاتب، اسماء الأبطال، الممثلين، ضيوف الشرف، مدير التصوير، الأزياء، الصوت، المونتاج، الخ. وانتهاءا بالمخرج. ومع كل هذه الاختلافات، يبقى العنوان يؤدي وظيفة "النظير النصي" الذي يستطيع المشاهد ان يدخل الى العمل من خلاله.
       يسعى المقال التالي الى اجراء تحليل نصي لعناوين اعمال الكاتب والفنان العراقي المبدع باسل الشبيب، والتي تشمل مسلسل (اعماق الأزقة) بجزأيه "باب الشيخ" و "المدينة" للمخرج الاردني ايمن ناصر الدين وكذلك مسلسل (رباب) للمخرج العراقي علي ابوسيف، اللذين عُرضا في شهر رمضان المبارك. اي ان هذا التحليل يهدف الى قراءة نصية لتلك العناوين من اجل الوقوف على الدوافع التي حدت بالكاتب الى اختيار هذه التسميات بالذات لتكون عناوين لمسلسلاته هذه التي عُرضت مؤخرا في شهر رمضان المبارك هذا العام من على شاشة قناة العراقية الفضائية التي انتجت هذين العملين الكبيرين الذَين يمثلان علامة فارقة على خارطة الدراما التلفزيونية العراقية على اكثر من صعيد: الكتابة والإنتاج والتمثيل والإخراج ولغة الحوار ورسم المَشاهِد والشخوص وغيرها مما يضيق على هذا المقال التطرق اليها كلّها، بل تحتاج الى وقفات اخرى. لذلك سأقتصر في تحليلي هذا على جانب واحد ألا وهو موضوعة العنوان والنظر اليه على انه نصّ او نص موازٍ. وستجيب هذه المقالة على السؤالين التاليين: لماذا استخدم الكاتب هذه العناوين؟ وماهي المضامين التي تنطوي عليها؟ وقبل الخوض في الاجابة والتعرض لدلالات هذه العناوين وأسباب استخدامها، اجد من المناسب ان استعرض هذين العملين الكبيرين بشكل سريع.
2. مسلسلا (اعماق الأزقة) و (رباب): لمحة سريعة
       يقع مسلسل (اعماق الأزقة) في جزأين هما: "باب الشيخ" و "المدينة". الجزأ الاول "باب الشيخ"، الذي عُرض في العام الماضي، يتناول الفترة من 1963 الى 1968، اي الفترة التي اعقبت اجهاض ثورة 14 تموز 1958 في شباط 1963 وتولي حزب البعث زمام الامور آنذاك. يتحدث هذا الجزء عن معاناة منطقة باب الشيخ وعگد الاكراد من الممارسات القمعية التي انتهجتها بوحشية بالغة عناصر الامن بحق اناس عزّل إلاّ من مبادئهم التي يؤمنون بها وولائهم لوطنهم. وينتهي  هذا الجزء بمآسي لاحصر لها وتصفية بعض عناصر الامن لبعضهم البعض حتى لاتنكشف خيوط عمالتهم الى الجهات الاجنبية التي يعملون لصالحها وفي مقدمتها الاستخبارات البريطانية والمخابرات الامريكية. في الجزء الثاني "المدينة"، الذي عُرض شهر رمضان الفائت، تنتقل المشاهِد الى منطقة "مدينة الثورة" التي كانت تعرف وقتذاك وتدور الاحداث في الفترة مابين 1968 – 1973، اي مع بداية السيطرة القوية لحزب البعث وانتهاءا بإعدام ناظم كزار مدير الامن العامة اثر محاولة اغتيال احمد حسن البكر وصدام حسين في مطار بغداد لكن طائرتهما تأخرت عن الموعد المتفق عليه ولم تتم العملية وحصل ماحصل. في هذا الجزء تصبح ممارسات الاجهزة الامنية اشد ضراوة وشراسة من ذي قبل، ففي بداية الستينات كان حزب البعث يفتقر الى الكثير من امور القيادة والتنظيم لكنه في نهاية الستينات وبداية السبعينات احكم قبضته على كل مفاصل باب الشيخ والمدينة على حد سواء والسيطرة على اهليها من خلال الوكلاء الموجودين بشكل علني هذه المرة (مثل مفوض عادل وأخوه هنّو) في حين كان الوكلاء في الجزء الاول (مثل ناصر الحمّال) يعمل في السر ويتصل بمراجعه عند عودته الى بيته البسيط في باب الشيخ حتى لاينكشف امره.
       باختصار شديد يفضح الجزآن (باب الشيخ والمدينة) الجهات التي ساندت حزب البعث في القضاء على ثورة 1958 وإعدام الزعيم عبدالكريم قاسم، وابرز هذه الجهات، كما ذُكر آنفاً، هي الاستخبارات البريطانية والمخابرات الامريكية بالتعاون مع ضباط امن واستخبارات عراقيين عملوا جواسيس لصالح هذه القوى الاجنبية على حساب بلدهم.
       اما مسلسل (رباب)، فهناك قفزة في الزمن حيث تتحول الاحداث الى بداية الثمانينات اي مع تسنم صدام حسين لمقاليد الحكم واندلاع الحرب العراقية-الايرانية وتمتد احداث المسلسل على مدى عقد من الزمان، بل اكثر من ذلك. يعالج المسلسل موضوعة الكرد الفيليين وتهجيرهم بشكل وحشي من بلدهم ورميهم على الحدود العراقية-الايرانية ومصادرة ممتلكاتهم وتجريدهم من ابسط المستمسكات الرسمية. ويشمل مسرح الاحداث اماكن عدة تمتد من بغداد وحتى جبال السليمانية، اي بحجم معاناة رباب وعائلتها التي ذاقت الأمرّين ليس من اجهزة الامن فقط وإنما هذه المرة من الأجهزة الحزبية التي اضيفت كدعامة مهمة لتكريس الدكتاتورية. وبهذا امتزجت دماء العراقيين ولغتهم وآلامهم وآمالهم، عربا وكردا، على جبال كردستان عندما تقاسموا الرغيف سوية وعندما تقاسموا الإطلاقات النارية التي اودت بحياتهم جميعا في نهاية المطاف سوى عبدالله (ابن عبدالرحمن زوج رباب) ليبقى الشاهد الوحيد على معاناة قلّ مثيلها في التاريخ الحديث ليحكي زمناً قد ضاع بين دهاليز الامن وعلى الحدود الشاسعة وفوق جبال قرية سعيد خوشناو المهجورة اصلاً.
       من خلال هذا العرض السريع لأحداث هذين المسلسلين، ربما يبدو للوهلة الاولى بأنهما عملان سياسيان فقط يتحرّك الابطال فيهما بدوافع سياسية او مصالح حزبية او مآرب شخصية ضيقة سعياً وراء المناصب. لكن عند النظر اليهما من زاوية أخرى يتضح جليا بأن الجانب العاطفي حاضر بقوة وهو الشطر الاكثر تأثيرا على مصائر الابطال والشخصيات الاخرى من خلال علاقات الحب التي ابرزها الكاتب بشكل فني راقٍ جداً في خضم هذا الكم الهائل من الدمار والخراب وسيل الدماء وضرب السياط وأصوات السجانين وشتائمهم. حالات الحب كثيرة وقد اضفتْ شحنات عاطفية قوية على هذين العملين خفّفت فيه من حدة التجهم السائدة والمقابرية المقيتة التي فرضتها الظروف القاسية. في (اعماق الأزقة) ثمة علاقات حب ولدت من رحم المعاناة، مثلا تلك العلاقات التي جمعت بهية ومنعم، بتول وطالب، قسمة واحمد، ونجاة وشاكر لكن بعد اقتران الاخير بابنة خالته تتكشف علاقة حب في نهاية الجزء الثاني بين نجاة ونجم لأنه ثأر لها من قتلة گمر والمتسببين في سجن حمامة، الأمرأة الطيبة التي تفيض حكمة وأصالة. وفي (رباب) هناك علاقات نشأت بين لمى ووسام، نضال وشامل، جوانا وهيوا وغيرها. لكن اخطر حالات الحب التي اثّرت كثيرا على مجرى الأحداث هي "مثلثاث الحب" التي جعلت الشخصيات المحورية في هذه العملين يتصرفون بالشكل الذي ظهروا فيه لاسيما شاهين في (اعماق الأزقة)    و صبري في (رباب). ومن ابرز هذه المثلثات التي كانت السبب في تأجيج جذوة الثار وبقائها مستعرة لدى هاتين الشخصيتين حتى النهاية تتمثل في:
-        مثلث نبيلة – فؤاد – رازقية (المثلث الاول في مسلسل اعماق الأزقة)، حيث ان نبيلة تحب فؤاد وفؤاد يحب رازقية.
-        مثلث شاهين – نبيلة – فؤاد (المثلث الثاني في مسلسل اعماق الأزقة)، حيث ان شاهين يحب نبيلة ونبيلة تحب فؤاد.
-        مثلث صبري – رباب – عبدالرحمن (في مسلسل رباب)، حيث ان صبري يحب رباب ورباب تحب عبدالرحمن.
مثلثا الحب الأوّلان (في مسلسل اعماق الأزقة) جعلا شاهين ينتقم شر انتقام من رازقية بوصفها حبيبة فؤاد وزوجته المستقبلية، فقام بيده بقتل والدها وأخيها وابنها في الجزء الاول وكذلك جعلته ينتقم من اخيه فؤاد وسكان المنطقة ككل ويذيقهم شتى انواع التعذيب في كلا الجزأين. اما في مسلسل (رباب)، فقد لعب مثلث (صبري – رباب  – عبدالرحمن) دورا خطيرا في جرّ الاحداث الى ما وصلت اليه في تهجير عائلة كاملة ورميها على الحدود لتكون نهبا لشتى ضروب القسوة والحرمان. هذا الوضع المركب حوّل رفيق صبري الى وحش كاسر استغل منصبه وأمواله وعلاقاته بالأجهزة الامنية  وكل ما أوتي من حقد لإذلال رباب وتركيعها من اجل قبول الارتباط به.
       صحيح ان مسلسلي (اعماق الأزقة) و (رباب) هما مسلسلان سياسيان، كما سلف القول، لكنهما ايضا يُعدّان مسلسلين عاطفيين بامتياز نظرا لانطوائهما على الكثير من الحالات الوجدانية التي يتفطّر لها الفؤاد، فضلا عن الأبعاد الانسانية والاجتماعية التي امتزجت بنسب سحرية عجيبة مع حالات الكراهية والبغضاء والتشفي والريبة لدى الجانب الآخر من المعادلة المتمثلة بأجهزة الامن وزنازينها وأساليبها الوحشية، فحتى حفلات الغناء والرقص التي كانت تقام على حديقة عقيد مؤيد انما كانت حفلات باردة خالية من العاطفة أعدت فقط لعقد الصفقات والطبخات المشبوهة. المسلسلان، بشكل أدق، اعادا تشكيل الوجع العراقي وصبّه في قالب درامي مؤثر.
3. الكلمة بوصفها نصاً
       النص او النصانية بالمفهوم الحديث لايشتمل فقط على الكلام المحكي (الذي يشار اليه عادة بمصطلح الخطاب) او الكلام المكتوب (الذي يصطلح عليه عادة بالنص) مهما كان طوله او مدته (كلمة، عبارة، جملة، فقرة، الخ) وانما يتعدى ذلك الى العلامات او الايقونات المستخدمة كوسائل تواصلية، مثلا، على الطرق او داخل البنايات الكبيرة او المطارات، الخ. الكلمة او الايقونة حتى تكون نصاً او ينظر اليها على انها كذلك ينبغي لها ان تلبي معايير النصانية السبعة، التي وضع اسسها كل من بوغراند و درسلر في كتابهما مدخل الى علم لغة النص 1981، والتي تشمل: الإتساق، الإنسجام، القصدية، المقبولية، المعلوماتية، الموقفية، والتناص. فإذا مااستوفت الكلمة (او العبارة او الجملة او الايقونة) هذه المعايير السبعة، عندها يمكن اعتبارها نصاً، وبذا فهي معايير او أسس يمكن تطبيقها لتمييز النص عن اللانص.  
       وحياتنا اليومية تزخر بمثل هذه النصوص القائمة بذاتها. خذ مثلا جملة "احترم تُحترم" الموجودة عند بعض نقاط التفتيش او داخل بعض الدوائر الرسمية، فهي تنطوي على نص كامل ينقل رسالة واضحة ومركزة. فجملة فعل الشرط "احترم" وجواب الشرط "تُحترم" لاتنطوي على امر فقط بقدر ما تعطي تحذيرا شديد اللهجة مفاده "نحن قادرون ان نفعل بك كذا وكذا ونمتلك اليد الطولى في فعل مانشاء بك إن انت تجاوزت حدودك في هذه الأماكن". ونفس الشيء ينطبق على عبارات كثيرة مثل: المراجعة من الشباك، الكل يخضع للتفتيش، محافظتي اولا (وغيرها من الكليشيهات التي يستخدمها المرشحون بكثرة ايام الانتخابات وكلها نصوص وليست كلمات عابرة بريئة)، او، بالنسبة للرموز او الأيقونات، استخدام رموز او شعارات معينة لتكون "لوگو" لشركة معينة او منظمة او مؤسسة ما. وحتى في ثقافتنا الشعبية، يجنح بعض الأشخاص الى تعليق، مثلاً، ام سبع عيون على واجهة المحال او البيوت، او تعليق فردة نعال او حذاء (أجلّكم الله) على الباب، فكل هذه ليست استخدامات فارغة وإنما تخبر القاري (في حال اللغة اللفظية) او الرائي (في حال اللغة غير اللفظية) بشفرات تشي بالكثير.
       بعد هذه المقدمة البسيطة حول مفهوم النصانية ومعاييرها السبعة، أعود الى موضوعة العنوان لقراءة عناوين المسلسلين موضوعي البحث وهما (اعماق الأزقة) و (رباب) قراءة نصية عبر النظر الى هذه العناوين على انها نصوص قائمة بذاتها وليست كلمات عابرة وبسيطة رُصفت كيفما اتفق. 
4. العنوان "اعماق الأزقة" بوصفه نصاً    
       يمكن الوصول الى الدلالات والمضامين التي يحملها هذا العنوان، سواء بصورة مباشرة ام غير مباشرة، عن طريق اختبار نصانية هذا العنوان ومعرفة مدى تلبيته لمعايير النص السبعة المشار اليها آنفا وهي الإتساق والإنسجام والقصدية وصولا الى معيار التناص. (اعماق الأزقة) كعنوان رئيس يمتلك اتساقا cohesion عبر الروابط النحوية واللغوية والمعجمية بين عناصره (اعماق – الـ – أزقة )  وكذلك يمتلك انسجاما coherence عبر العلاقات المعنوية [نسبة الى المعنى] والدلالية والمنطقية بين عنصريه (أعماق) من جهة و (الأزقة) من جهة اخرى الواردين بصيغة الجمع، حيث "اعماق" تشير الى الحفر بعيدا نحو الاسفل وصولا الى الجذور بينما "الأزقة" تشير الى الاماكن الضيقة. وبشكل استعاري، هذا العنوان الرئيس يوحي ابتداءا الى ان العمل سيستغور اسباب وجذور الضيق والضنك الذي تعانيه هذه الاماكن. هذان المستويان، اي "الإتساق" و"الإنسجام"، يفترضان وجود عدة عناوين فرعية اخرى لكي يكتمل البعد الدلالي وعندها يُنظر الى العنوان ككل على انه نص متكامل وليس مجموعة كلمات اجتمعت مع بعضها صدفة. لذلك، كما شاهدنا اثناء عرض هذا المسلسل، كان هناك عنوانان فرعيان لحد الآن هما (باب الشيخ) و (المدينة) ويمكن ان يتعدى ذلك الى عناوين فرعية اخرى تتجاوز باب الشيخ والمدينة لتكون مسارح اخرى لأحداث جديدة تعضيدا للرابط الدلالي المنطقي.
       على المستوى القصدي intentionality، وهو المعيار الثالث، لم يأتِ عنوان (اعماق الأزقة) بفرعيه باب الشيخ والمدينة اعتباطا او طارئا على جسد العمل ككل وإنما استند الى رؤى بعيدة استوعبت هذا العمل من جميع جوانبه. فمنتج العنوان – النص – اي كاتبه وواضعه ومرسِله قصدَ ان ينقل رسالة عبّرت بدقة عن وجهة نظره المتمثلة في ان العمل يتناول عدة ازقة اولها كان باب الشيخ وثانيها المدينة وثالثها ..... ورابعها ..... بقدر عدد الأزقة التي ذاقت الأمرّين في ازمنة مختلفة. وإذا كان المعيار القصدي يتعلق بوجهة نظر الكاتب، فإن المعيار الذي يليه، اي معيار المقبولية acceptability، يتعلق بمستقبِل او مستلِم النص الذي لابد ان يستحسن النتاج وإلاّ فإن العنوان كنص يكون مجرد كلمات ابعد من ان تكون نصا. في هذا المعيار، يُفترض ان تكون هناك مقبولية لدى المتلقي كون العنوان ينطوي على اتساق وانسجام، اضافة الى ان العمل بأكمله تلامس احداثُه وجدانَ ذلك المتلقي وتخاطب عقله. لكن هذا المعيار يرتبط ايضا بقدرة المتلقي على تفكيك شفرة العنوان كي يصل الى الأنساق الدلالية التي يتضمنها، وهذا يدلّ على ان المقبولية لاتعني ابدا القبول او الرفض السطحي بل تتطلب درجة ما من التأويل من لدن المتلقي او المُشاهِد. وفي (اعماق الأزقة)، تحققت مقبولية كبيرة لدى المُشاهد بعد توالي عرض هذا المسلسل افصحت عن مدى تطابق هذا العنوان مع محتوى المسلسل وحجم الإمكانيات الكبيرة التي ظهر فيها، على سبيل المثال، الممثلون الذين تماهوا في تجسيد ادوارهم مع الشخوص التي مثلوها بحيث يصعب الفصل بين الممثل وبين الشخصية التي يؤدي دورها مما جعل المتلقي يتّخذ موقفا من بعض الشخوص ويتعاطف مع البعض الآخر ويتأثر وجدانيا مع شخوص اخرى وهكذا. فضلا عن وجود الثيمة الرئيسة التي تحاكي اوجاع المتلقي وتتعرض لها بأسلوب فنيّ راقٍ. كل تلكم العوامل تجعل معيار المقبولية هذا في اعلى مستوياته سيما وان نبض الشارع هو الفيصل في هذا المعيار. وبين معيارَي قصدية الكاتب ومقبولية المتلقي ثمة رسالة، او جملة رسائل، يتبادلها المرسِل (كاتب العمل) والمرسَل اليه (المشاهِد) من اجل الوصول الى تواصل مؤثر وجماليّ. 
       وعلى مستوى الإخبارية او المعلوماتية informativity، يمكن ان نرى بأن (اعماق الأزقة) كعنوان يشي بكمّ معلوماتي هائل عبر غوصه في متاهات ازقة متعددة جاء عنوانا (باب الشيخ) و (المدينة) كفاتحة للدخول في اعماق ازقة اخرى سيطالها يراع الكاتب ليسلط ضوءه الكشاف عليها وهذا هو المتوقع في المستقبل. العنوان الرئيس (اعماق الأزقة)، وفق معيار الإخبارية، يحيل ذهن المشاهِد الى ان العمل، كما ذُكر آنفا، يغوص عميقا بين منعرجات وتلافيف امكنة متعددة هي عبارة عن ازقة وليست احياء فارهة كبيرة. بينما العنوانان الفرعيان (باب الشيخ) و (المدينة) فيحيلانه الى مكانين هما جزء من الأزقة التي ينوه لها العنوان الرئيس. وهذه تمثّل ايضا مقاطع عرضية وضعها الكاتب تحت مجهره ليخبر بأن هذين المكانين هما القلعة التي ستتحطم على اديمها ارادات الاجهزة الامنية التي تحاول ترويض الناس بالقوة والتهديد والسجن والتعذيب والتغييب لثنيهم عن مواصلة مقارعتهم للظلم. اما العنوان الفرعي الثاني (المدينة) فهو كمفردة معجمية يشكّل نصا يشير الى ان أهليه من المؤيدين للزعيم عبدالكريم قاسم كونه هو الذي بنى هذه المدينة لهم وهذا يعنى ان السلطات سوف تتفنن في ايذائهم بذنب او بدونه. وهذا يتضح جليا في مخاطبة عقيد شاهين لأهالي المدينة وهو ينعتهم بأبشع الصفات: "شلة من الخونة.. واللي بنالكم بيوت مات.. اللي بنالكم بيوت مات.. بس ماتريدون تعرفون.. اهدّم بيوتكم على روسكم اللي بناها عبدالكريم قاسم". 
       المستوى السادس يتعلق بمعيار الموقفية situationality، اي مدى مطابقة العنوان لمقتضى الحال او للسياق العام لحدوثه. وهذا العامل يتضح جليا من خلال ارتباط العنوانين الفرعين (باب الشيخ) و (المدينة) ارتباطا عضويا مع بعضهما البعض. فإذا كان العنوان الرئيس "اعماق الأزقة" عاما وشاملا، فإن العنوانين الفرعيين يجنّسان ويحدّدان بالضبط مسرح الاحداث. هنا تتكشّف فطنة الكاتب في اختيار العنوان ككل (اي الرئيس والفرعي). لذلك فهو لم يعطِ عمله عناوين مثل "في دهاليز الأمن او "زنازين الأبرياء او "معاقل الثوار". فهذه العناوين المفترضَة كلها تبدو وكأنها مانشيتات صحف، كما انها تعبّر عن اشياء زائلة محكومة في زمانيتها ومكانيتها. فالزنازين او دهاليز الأمن يمكن تحويلها الى بنايات ذات استخدامات اخرى بمجرد تغيير وظيفتها الاستعمالية وبذلك تكتسب تسميات مغايرة، تماما مثلما تمّ تغيير قصور صدام الرئاسية الى منتجعات سياحية وأماكن ترفيهية. وعلى حد تعبير جومسكي انه بالإمكان تحويل البيت، مثلا، الى مرآب بمجرد وضع السيارات فيه، او تحويله الى زريبة حيوانات بمجرد ربط الحيوانات فيه او ربما الى متحف بمجرد وضع اللقى والآثار التاريخية فيه. اما المدن فهي باقية. يقول جومسكي ايضا انه اذا قيض تدمير لندن ومحوها من الخارطة فإن لندن تبقي هي هي تحمل الاسم نفسه والدلالات نفسها. والشيء ذاته ينطبق على العنوانين الفرعيين (باب الشيخ) و (المدينة)، فهاتين المدينتين رغم قسوة الظروف التي تعرضتا لها اسوة بساكنيها لكنهما بقيتا تحملان الاسم نفسه. وحتى عندما كان شاهين، الشخصية المحورية في كلا الجزأين يهدد ابناء المدينة بمسحها مع اهلها من الوجود وتسويتها بالأرض، كان واهما جدا في تغييب اسمها غير دارٍ بأن المدينة، اية مدينة، تكون خالدة باسمها على مر الدهور والعصور. وهكذا بقيت مدينة "باب الشيخ" باب الشيخ وبقيت "المدينة" المدينة. ولو ان الأخيرة تعرض اسمها الى عدة تحولات حيث تغيرت من مدينة الثورة الى مدينة صدام ثم اخيرا الى مدينة الصدر. لكن هذا لم يغير شيئا من جوهر هذا المدينة المعطاء بأهلها وناسها، فبقيت منجما للتضحية والإيثار. فالوردة، يقول شكسبير، بأي اسم تسمّيها، فإنها تعطي نفس الرائحة. المدن، إذن، اقوى دائما من كل الظروف، لذلك كانت هاتان المدينتان السبب الرئيس في سقوط شاهين، مدير امن الثورة، المسنود اصلا من ناظم گزار، مدير الامن العامة، ونزوله من عليائه ليقبع اخيرا في مصح عقلي. وبذا تحققت نبوءة حمامة، الأمرأة العراقية الطيبة، عندما اخبرت شاهين وهي في السجن بكل شجاعة قائلة له "اسمع يبن الناس، مادامت حتى لقارون، وشما تطول تراهي مگلوبة مگلوبة".
       وأخيرا مع المعيار السابع، اي معيار التناص intertextuality الذي يجعل معرفة هذا العنوان متوقفة على معرفة عنوان اخر سابق له او متزامنة معه، وهذا يشير الى ان العنوان هو فضاء تلتقي فيه عدة نصوص وهذه النصوص تتواشج بعلائق شتى مع العالم الخارجي ايضا. يتضح هذا المعيار من خلال ترابط العنوانان الفرعيان "باب الشيخ" و "المدينة" ببعضهما البعض من جهة وارتباطهما بالعنوان الرئيس "اعماق الأزقة" من جهة اخرى، وارتباط هذه العنوانات الثلاثة "اعماق الأزقة، باب الشيخ، المدينة" بالعالم الخارجي المعاش، اي ان لهذه العنوانات مداليل في العالم المادي. بكلمة أخرى، ينطوي هذا المعيار على العوامل التي تجعل معرفة "باب الشيخ" عن طريق الاستفادة من معرفة "اعماق الأزقة"، وأيضاً تجعل معرفة "المدينة" عبر بوابة معرفة "باب الشيخ"، وبالتالي معرفة العالم الفعلي من خلال معرفة تلك العنوانات ثلاثتهن. 
5. العنوان "رباب" بوصفه نصاً
       "رباب"، العنوان، النص، ربما يختلف بعض الشيء عن العنوان "اعماق الأزقة" في انه يشير الى اسم علم لشخص، بينما "اعماق الأزقة، باب الشيخ، و المدينة" تشير الى اسماء علم مكانية. وقبل تحليل هذا العنوان نصيا للوقوف على دلالاته ومضامينه من خلال معرفة مدى انطباق معايير النصانية  السبعة عليه، تتبادر الى الذهن اسئلة من مثل: لماذا لم يسمِّ الكاتب مسلسله "رفيق صبري" العضو البارز في حزب البعث وله سطوة وجاه ومال وكلمة مسموعة لدى السلطات الأمنية؟ او يسميه "عقيد مؤيد" اللاعب الثاني بمقدرات الناس بوصفه مدير امن في بغداد وأيضاً يمتلك السلطة والجبروت وتربطه مع صبري صفقات مشبوهة من الرشى والفساد وتزييف الحقائق؟ ولماذا جاءت تسمية المسلسل بـ "رباب"، الحلقة الاضعف بالنسبة الى هذين الكاسرين صبري ومؤيد؟ لا هذا ولا ذاك يمكن ان يصلح ان يكون عنواناً لهذا المسلسل لأنهما ببساطة سيحرفان تفكير المُشاهِد من التركيز على الضحية ويجعلانه يركز على الجلاّد. اضف الى ان كليهما لم يصنع الاحداث بل كانت جلّ تصرفاتهما مجرد ردود افعال لما تقوم به رباب التي سمّي المسلسل باسمها، وهي تسمية ناجحة جدا تنطوي على دلالات ومضامين عدة ستتكشف في التحليل التالي لهذا العنوان بوصفه نصا.  
       بتطبيق المعيار الأول، وهو معيار الإتساق cohesion، يتضح بأن ثمة تواشجا معجميا ونحويا بين الترتيب الحروفي (ر ب ا ب) في تكوين مفردة "رباب" التي تشير الى اسم علم مؤنث عربي يعني السحب البيضاء (لسان العرب والقاموس المحيط ومعجم معاني الاسماء). وبهذا، فـ (رباب) لم يعد اسما لشخصية فقط يؤدي وظيفة اشارية، وإنما تعدّاه ليصبح حالة رمزية تعبّر عن مضامين تعكس وضع هذه الشخصية في المسلسل ككل. كانت فعلا السحابة البيضاء التي سافرت بين عدة فضاءات وهي تعود بمخيلتها الى تلكم الأيام الخوالي يوم كان بيتها يفيض بالحب والألفة والطمأنينة. وبالنسبة لرفيق صبري اصبحت فعلا سحابة بيضاء يراها ولايعرف طريقا للوصول اليها رغم تشبثه بخيوط اوهامه الى آخر مواجهة معها وهو يحمل مسدسه ويقول لها بكل سذاجة الوالهين عبر مكبر الصوت: "رباب.. آني ابن عمچ صبري.. ارجعوا.. حصّلت إلكم عفو من الحكومة.. ارجعي رباب". وبالنسبة للمعيار الثاني، الإنسجام coherence، المتعلق بمدى انطواء هذا العنوان على جملة من المعاني والأفكار ومنظومة من المفاهيم ذات الارتباطات الدلالية، تفصح لفظة "رباب" – كنص – عن جملة من العلائق المعنوية أبرزها رباب الزوجة، ورباب الأم، ورباب الند الكفؤ لابن عمها صبري الذي يريد الزواج بها بشتى الطرق الملتوية، ورباب الصابرة المحتسبة سيما بعد تطليقها بالقوة من زوجها في لحظة هي من اقسى اللحظات الانسانية بشاعة قبيل ترحيله وأولاده من بلده العراق، ورباب المضحية التي رضخت مؤقتا وقبلت بعقد قرانها في دائرة الامن على صبري مقابل ضمان حرية ولدها همام، ورباب المغامرة التي تركت بغداد واتجهت شمالا نحو السليمانية، وأخيراً رباب البطلة التراجيدية التي بسبب خطئها الفادح، عندما تركت الورقة المكتوب عليها عنوان فندق سومر في غرفتها لتراها كواكب (اخت صبري) وتطلع على محتوياتها، تعرّف الامن بوشاية من صبري على الوجهة التي اتجهت اليها والقرية التي سكنتها مع بقية الاشخاص الفارين من جحيم السلطات (شامل وكريم وبشتوان وغيرهم).
       اما على المستوى القصدي intentionality، فان الكاتب قصد من خلال هذا العنوان نقل رسالة دقيقة ومركّزة بأن رباب هي وطن صغير. فعندما حلّ بها المطاف في قرية سعيد خوشناو، توسلت بالمهرّب بشتوان بأن يجلب زوجها وولديها من ايران الى العراق ولم تفعل العكس اي ان تأمره بأن يهرّبها هي الى ايران. وبالفعل يُؤتى بزوجها وابنه عبدالله فقط، اذ ان ولدها الآخر، وسام، قضى وهو في طريقه الى ايران، فضمتهم تحت جنحها أحياءً، ومن بعد ذلك ضمتهم امواتا بعد ان قضوا جميعا على اديم ذلك الجبل عند هجوم السلطات عليهم. هذا المعيار مرتبط بمعيار اخر هو المقبولية acceptability، وهو معيار متعلق بوجهة نظر المتلقي، اي على عكس المعيار السابق المرتبط بوجهة نظر الكاتب. وهذا المعيار لايتحقق الاّ بعد تحقق معايير الإتساق والإنسجام وكذلك القصدية. ونظرا لتحقق جميع هذه المعايير السالفة الذكر، نجد بأن هذا العنوان لابد ان يحظى بنصيب كبير من المقبولية من لدن متلقي العنوان – النص – ذلك لأن "رباب" المفردة والنص استوعبت كل مفاصل العمل واستحوذت على احداثه انطلاقا من الحلقة الاولى وانتهاءً بأخر حلقة من المسلسل ولأن ثيمة العمل ككل تلامس شغاف المتلقي وتشحذ مخيلته وهي تعود به ثلاثة عقود الى الوراء فيرى الاحداث طرية امام ناظريه.
       وعند معيار الإخبارية informativity، فإن "رباب" كعنوان وكنص لابد انه اخبر او اوصل كماً معلوماتياً هاماً وحيويأ جداً ابرزه ان هذه هي معاناة رباب (كشخصية مفردة) لكنها تمثل حالة واحدة فقط من بين العديد من "الربابات"، اذا جاز التعبير، ممن عانين المصير نفسه او ربما اشدّ منه وأقسى. وهذا يدل على انه اذا كانت هذه هي رباب واحدة، فيمكن ان تكون هناك رباب ثانية، ورباب ثالثة، الخ. او اذا امكن استخدام تسميات اخرى يكون هناك، مثلا، هدى، وليلى، وزينب، بعدد العائلات التي تمّ تهجيرها في ذلك الوقت. والمعلومة المهمة الاخرى التي يشي بها العنوان عند هذا المعيار، اي معيار الإخبارية، تشير الى ان الانثى هي الأصل والأساس والمتضرّر الرئيس من كل مغامرات الأنظمة الشمولية السابقة، ولذلك لم يستخدم الكاتب كعنوان لمسلسله هذا اسم، على سبيل المثال، عبدالرحمن (زوج رباب)، او وسام، او همام، او عبدالله الذين ايضا كلهم عانوا بدرجات متفاوتة، لدرجة ان نقيب مؤيد، مدير الأمن عندما هرب همام من قبضة رجاله، اتصل برفيق صبري وقال له حرفيا: "همام ابن رباب هرب"، ولم يقل "همام ابن عبد الرحمن هرب" دلالة على دورها المؤثر في توجيه دفة الاحداث حسب رياحها هي وليس حسب مايخطط له صبري، وكذلك ليذكّره بحبيبة قلبه وينكأ جراحه التي حفرتها رباب بصدّها له. 
       وبالنسبة لمعيار "الموقفية" situationality، المعيار السادس، نجد بأن هذا العنوان يذكّر بالبيئات والمواقف التي تنقّلت فيها رباب. فقد زُجّت في بيئات اجتماعية وتواصلية عديدة، اي ان الكاتب لم يبقها اسيرة منزلها تنتظر الاحداث تتغير من تلقاء نفسها بل ساهمت في تغيير كثير من المواقف والأحداث. لذا رأيناها تتنقل بمحض ارادتها احيانا وبضغط الظروف احيانا اخرى بين مواقف وبيئات شتى: في دائرة الأمن، وفي الفرقة الحزبية، وفي بيت اخيها بعد ان تمّ الاستيلاء على بيتها وختمه بالشمع الأحمر، وفي فندق سومر في السليمانية، وفي اعالي قرية خوشناو الجبلية حيث قضت هكذا بكل هدوء وهي رابضة في مكانها، اي انها لم تسقط الى الأرض حتى في موتها.
       وأخيراً مع المعيار الاخير المتمثل بالتناص intertextuality. في هذا العنوان هناك تناص فريد بين "رباب" كمفردة لغوية و"رباب" كايقونة او رمز. اي بين "رباب" كتركيب لغوي يمتلك بُعدا نحويا ومعجميا ودلاليا ومنطقيا ينفتح الى دلالات عديدة كما رأينا في بداية هذا التحليل، وبين "رباب" بوصفها ايقونة او رمزا كما مرّ ذكره في المعيارين الأول والثاني حيث ترمز الى الام والزوجة والحبيبة والمضحية وغيرها. هذه الرمزية اضفت على هذه المفردة بُعدا نصيا جعلها تشير الى الصبر تارة، والى الحنان تارة اخرى، والى التجلّد تارة ثالثة، والى آخره من الحالات الوجدانية والانفعالية التي ظهرت عليها. هذه العلاقة المتبادلة بين رباب المفردة المعجمية ورباب الأيقونة توفّر، اذن، فضاءات اخرى من الدلالات والمضامين التي حملها العنوان عند معيار التناص هذا ومن بينها المشاعر والحالات الوجدانية التي ظهرت وكأنها متناقضة لكنها منسجمة مع مقتضى الحال. فـ "رباب" التي حملت المسدس ووقفت دون وجل لإطلاق النار على رفيق صبري وهو في دائرته هي نفسها التي بدت حيرى والدموع تنهمر على خديها دون كلام عند سماعها خبر وفاة ابنها وسام، ورباب عزيزة النفس جدا هي نفسها التي انصاعت مؤقتا بفعل الظروف الى مصيرها وعملت مجرد خادمة لكواكب زوجة اخيها التي تفننت في ايذائها، وغيرها من المناصات الاخرى بين رباب "المفردة" و مجموع المشيرات referents التي ترمز اليها.  
6. قبل الختام
       ثمة ملاحظة جديرة بالطرح في هذا السياق تتعلق بخاتمة مسلسل (رباب). ففي دقائق معدودات قضى الجميع على سفوح تلك القرية المهجورة بضمنهم رباب وزوجها وولدها وأصدقاؤهم من الكرد. وكأن الرسالة المتوخاة من هذا الموت الجماعي في نهاية الحلقة الاخيرة تفيد بأن مَن يخرج عن طاعة السلطات الامنية والحزبية يكون مصيره كمصير رباب وعائلتها وشامل وكريم وعائلة ابي نضال ودلشاد وبشتوان. فالمسلسل كان محايدا جدا في هذا الجانب بحيث اعطى ما للأمن للأمن وما للناس للناس. ربما تكون احداث العمل الحقيقية انتهت الى هذا المآل، لكن نحن المشاهدين نريد ان نثار لأنفسنا ولو فنياً على الأقل، اي على غرار نهاية الجزء الثاني من مسلسل (اعماق الأزقة) حيث انتهى بالإفراج عن جميع السجناء في مديرية الأمن، ووضع عقيد شاهين في مصح للأمراض العقلية، وزواج احمد من قسمة، وإشارات خفية بعلاقة حب جديدة بين نجاة ونجم الرجل الشهم الذي ثأر لنفسه ولأبناء مدينته، وربما زواج طالب وبتول. فما الضير، إذن، لو حدث تغيير طفيف في سيناريو احداث رباب في نهاية الحلقة الاخيرة عبر اللجوء الى النهايات السائبة. ومن جملة هذه السيناريوهات:
-        جعل كواكب (اخت رفيق صبري) تنسى الورقة التي تحتوي على عنوان الفندق في السليمانية التي لجأت اليه رباب، وبذلك تنتهي الأحداث بأن رباب وعائلتها وبقية الرجال ممن كانوا معها يبقون هكذا على تلك المرتفعات، فيما يبقى الجانب الاخر المتمثل بعقيد مؤيد ورفيق صبري قابعا بين دهاليز الامن وأقبية الفرق الحزبية. وبهذا يكون الرمز واضحا جدا في ان الفضيلة دائما تسمو وترتفع لتكون قريبة من السماء، بينما الرذيلة تندحر وتنزل اسفل سافلين. اي اللجوء الى نهاية مفتوحة تحتمل الكثير من التأويلات من لدن المتلقي.
-        او ان كواكب تسلّم الورقة وإثناء الطريق الى السليمانية يحدث حادث الى صبري ومؤيد ويقضيان في الطريق قبل ان يعدّا العدة لمهاجمة رباب وعائلتها في ملاذهم الاخير على الجبال.
-        او جعل دلشاد، قائد الفصيل، يستشعر الخطر ويأمر الجميع بالانتقال الى قرية اخرى او ربما الى جبل اخر وبذا يتفادون هذه الابادة الجماعية كما فعلها سابقا كاكا جمال ورجال فصيله عندما انتقلوا الى موقع آخر.
لكن كل هذا لم يحصل. مع ذلك لم تمت رباب ولا زوجها ولا أولادها. فقبل ختام الحلقة الاخيرة يخبرنا الناجي الوحيد عبداالله (ابن عبدالرحمن زوج رباب)، وهو يسرد الأحداث بطريقة الارتجاع الفني فيما كان جالسا في بيته القديم الذي عاد اليه بعد ردح طويل من الزمن، بأنه تزوج بإمرأة من اقليم كردستان ورُزق بثلاثة اولاد اسماهم عبدالرحمن ووسام وهمام وببنتٍ واحدة اسماها رباب. وبالنتيجة لم يمت احد من هذه العائلة، وهذا هو عزاؤنا الاخير تجاه هذه المأساة.
7. خاتمة      
       يمكن القول، في نهاية هذا التحليل، بأن كل من "اعماق الأزقة" و "باب الشيخ"، و "رباب" كعناوين يمكن النظر اليها على انها نصوص قائمة بذاتها، ذلك لأنها استوعبت كل معايير النصانية السبعة وهي الإتساق والإنسجام والقصدية والمقبولية والإخبارية والموقفية والتناص. وكونها نصوصا، وليست مجرد كلمات عابرة، فإن هذه العناوين موضوعة البحث افصحت عن الكثير مما اراد الكاتب طرحه في هذين العملين الكبيرين كما رأينا آنفا في سياق هذا التحليل.
       أخيرا، يبقى مسلسل (اعماق الأزقة) بجزأيه و مسلسل (رباب) علامتين بارزتين على خارطة الدراما العراقية اعاد من خلالهما الكاتب المبدع باسل الشبيب تشكيل اوجاع شعب كامل من خلال حفره عميقا ببراعة المنقّب الحاذق في ازقة قيّض لها ان تكون نهبا لتلك الظروف القاسية ومن خلال تقصيه لحالات انسانية شكّلت مشاهد مرعبة في تلك الحقبة. نأمل من الكاتب في ان يحفر مجددا في اوجاع ازقة اخرى على غرار باب الشيخ والمدينة وأن يرسم مآسى اناس اخرين على غرار رباب وعائلتها.