من الموت الى الموت
ملف الشّاعر : محمد طالب محمد
ملف يساهم فيه/خالد السلطان/جاسم العايف/ جميل
الشبيبي/ يعرب السعيدي/محمد صالح عبد الرضا/عبد العزيز عسير/مجيد الموسوي/ مختارات
من قصائده
جاسم العايف: لم يكن اهتمام أدو
نيس بمحمد طالب محمد جزافاً
حاوره : خالد السلطان
*اللافت
للنظر إن العديد من المعنيين بالممارسة الإبداعية (الشعرية) شعراء ونقاداً
ومتلقين، لايجهلون المنجز الشعري للمرحوم محمد طالب محمد حسب، إنما يجهلون اسمه
وهويته العراقية. ولما كنت، أستاذ جاسم، أحد أصدقائه الخلص،دعني أسألك بدءاً، مَن
هو محمد طالب محمد..؟
- هذا السؤال مثير للألم حقاً... محمد طالب محمد، ولد في البصرة
وعاش فيها وبعد إكمال دراسته الإعدادية انتقل إلى بغداد، وأنهى الدراسة في كلية الآداب،
وكان مكتفياً بعدد قليل من الأصدقاء، ومبتعداً عن المهرجانات وكل مايمتّ بصلة
لثقافة النظام أو السلطة. كان منشغلاً بمشروعه الشعري وبالاستمتاع ببعض اللذائذ
اليومية، التي توفرها العلاقات الحميمة لأصدقاء لا علاقة لأغلبهم بالأدب. كان
يستمتع كثيرا بالحياة اليومية في مقهى (هاتف) في البصرة القديمة, والتي تحولت إلى
مقهى الشناشيل، ثم أصبحت مخزناً للمواد الإنشائية آلآن ومعمل للنجارة في مرحلة
الحصار , وفي بعض النوادي لممارسة بهجة الحياة. ولديه علاقات وثيقة بأصدقاء همهم
الشعر والأدب والفن، زامله بعضهم في مرحلة الدراسة والبعض الآخر تعرّف عليه بعد
تعيينه في سلك التعليم. أصدقاؤه في البصرة صفوة من جيل الستينيات، منهم القاص
والروائي إسماعيل فهد إسماعيل، قبل استقراره في الكويت، والناقد جميل الشبيبي
والشاعر عبد الكريم كاصد والشاعر شاكر العاشور، وصديقنا يعرب السعيدي وله علاقة
وطيدة، بحكم الاهتمام والجيرة، بالكاتب إحسان وفيق السامرائي، والشاعر شاكر
العاشور والشاعر محمد صالح عبد الرضا، ويوسف السالم، ومصطفى عبد الله وعدد من
الأصدقاء من الشعراء والأدباء ، وبالذات ممن يتردد على المقهى وتعرّف عليه أيضا
الشاعر حسين عبد اللطيف. نشر محمد طالب محمد بعض القصائد العمودية في مجلة الأقلام،
أبان صدورها، عندما كان طالبا في كلية الآداب ، ونشر أيضاً في مجلة (الكلمة). وأنهى
الدراسة بتفوق بسبب من تربيته الأدبية واللغوية، حيث إن والده رحمه الله من
المتابعين، بدأب وحماس للأدب العربي والشعر بالذات، ولديه مكتبة تحتوي على مصادر
مهمة للشعر العربي الجاهلي والأموي والعباسي والأندلسي. وشعراء النهضة العراقيين،
كالرصافي والزهاوي ، والعرب أيضاً, مع اهتمام خاص، جداً، بالجواهري. كان المرحوم
الحاج طالب أصاب (محمد) بعدوى قراءة الشعر منذ الصبا والاهتمام بالجرس اللغوي
والبديع والزخرفة والصرف والنحو والبلاغة، كان الحاج طالب فخوراً بولده- الوحيد-
محمد وبمستقبله الشعري. ومن طرائفه أنه قال لي يوماً وكان يأتي ليجلس في ذات
المقهى التي نجلس فيها (لقد خيّب محمد ظني
حينما توجه إلى كتابة الشعر الحديث)، فقلت له مازحا: حسناً فعل ذلك لأنه لم يخيب
ظننا.
* الأسباب التي أدت به إلى الهجرة..؟
- بموجب قانون التعريب في الجزائر آنذاك، تمت الاستعانة بمدرسي
اللغة العربية وخصوصاً من العراق فكانت فرصة للسفر وقد ذهب محمد طالب محمد للتدريس
وهناك تزوج من سيدة جزائرية ،وحينما عاد وفوجئ بالواقع الذي كان في بداية السبعينيات
وهو بداية الانحدار القيمي والاجتماعي وشيوع أمراض الانتهازية والنفعية وارتقاء
مَن لا يستحق في الإدارات المدرسية ، ورأى أيضاً محاولات جادة سياسية-حزبية نفعية
لتجاهل أحداث تاريخية مفجعة في الحياة الاجتماعية- العراقية والعمل على تبييض
صفحات سوداء مريبة جداً وتأهيل قوى دموية وشخصيات لقتلة من محترفي الجريمة العامة
والخاصة من أجل أن تكتسب صفة (الديمقراطية والثورية) فشعرنا - جميعاً- بالاشمئزاز إلا
انه كان أكثرنا قرفاً، وتزامن ذلك مع مرض غريب أصاب السيدة زوجته أتعبها كثيرا. فقد أصيبت بـ(حساسية) محرقة
لجسدها وجيوبها الأنفية لم تستطع هذه المرأة القادمة من الجزائر وبحره المتوسط ، تحمل جو
العراق حتى الاجتماعي وقد كان عليها انتظار العائد من الوظيفة، وهي المتخصصة في الاعلام
المرئي، أو من متع الليل البريئة ... تقول لي:- هناك ما يشبه الجهل بشخصية محمد
طالب، لقد أرسل ادونيس رسالة بخطه إلى محمد طالب، رسالة مملوءة بالإعجاب والحماس
لكن محمد كان حيياً ولم يرغب أن يطلع الآخرون على ما كتبه ادونيس له، أذكر
نهايتها: (يا محمد.. سلاماً أيها الشاعر حقاً).
* هل يمكن أن نعدّ محمد طالب شاعراً شيوعياً، أم مثقفاً ماركسياً
تجاوز بشعريته حدود الأيديولوجيات..؟
-
دعني أقول لك بصراحة إذا كانت الشيوعية تعني الجلوس في غرفة مغلقة مع الجماعة
الحزبية وكتابة التقارير الحزبية الشهرية ، ودفع بدل الاشتراك المقرر فمن المؤكد إن
محمد طالب ونحن جميعا لا نمت للشيوعية بشئ ولا نعرف "الحزب الشيوعي العراقي"
ولا يعرفنا ، إما إذا كان العكس أي الانفتاح على الناس والبحث عن العدالة الاجتماعية- الإنسانية،
والسعي بقوة وفعالية من اجل تحققها وترسيخ قيم الحرية الإنسانية المدعمة بحقوق الإنسان
والحياة في مجتمع متمدن وحرية المرأة وحقها في الاختيار والمساواة الكاملة لها مع
الرجل بعيداً عن طواطم التابوات, و السعي لغرض تحويل البشر إلى كائنات فعالة
لتغيير شروط الحياة..الخ فنحن منها وهي منا ...كان محمد نشطاً جداً في اتحاد
الطلبة العام ومتحمساً ومندفعاً ، ونجا من الاعتقال في الإعصار الدموي البعثي في 8
شباط عام 1963، وظل محمد في جامعة بغداد يواصل دراسته إلا انه حينما عاد إلى
البصرة في الشهر السادس القي القبض عليه واعتقل في (مقر الحرس القومي) الذي كان في
نادي الاتحاد الرياضي مقابل ساحة(أم البروم) الذي حوله الأوغاد البعثيين مقراً لهم تفوح منه روائح الموت وينبعث من ساحاته وقاعاته
الرياضية انين وصراخ الضحايا من النساء بالذات . اعتقل"محمد" هناك وحصل
له ما حصل لنا وخرج مدبوغ الجلد وموشوم القلب ومجروح الروح . في الشعر لم يكتب
محمد طالب محمد للمناسبات، لقد احتفى بالإنسان وعذاباته اليومية والتاريخية. لقد
كان مزدهيا بالإنسان وملذاته الإنسانية البسيطة- العميقة التي لا يستطيع الحصول
عليها بيسر، لأن سلطات الأنظمة
الاستبدادية الشرقية الوحشية لا تدع مجالاً وفسحة لممارسة الحياة الإنسانية
المدنية المتحضرة. محمد طالب محمد عراقي قدري في الحياة، ذهب إلى الجزائر واستقر
هناك بعد أن أرسل زوجته إلى الجزائر على ألا تعود ثم لحق بها وقال لي-: لن أعود . دعني
أوضح شيئا أساسياً لقد كانت الظروف تسير بنا تجاه اليسار العراقي والحزب الشيوعي
بالذات ونحن في مستهل مغادرتنا مرحلة
الصبا ،ولسنا نادمين قطعاً على ذلك، لقد بُحت حناجرنا من كثرة الصراخ في المسيرات وتهرأت
إقدامنا ونحن حفاة من الركض خلف اللافتات التي أدمنت تلميع صور العسكر بعد ثورة 14
تموز 1958 ومع كل ما واجهناه من عذابات فأننا لن نتراجع عن ذلك الاتجاه الذي عُرفنا به ولكننا نحاول أن نوسع من أفقنا
بعد أن انتهى الزمن الذي كنا نعتقد فيه بان التاريخ يسير على وفق قناعاتنا فللتاريخ
مساراته المتعرجة ودمويته وللواقع مخاتلاته الكثيرة واللامتوقعة، وبات علينا ، لزاماً أن نخفف من غلوائنا.
*بداهة
ثمة فارق أكيد بين الشعراء، وهم قلة، وبين من يكتبون الشعر، وهم كثر. هل تؤشر
وبعجالة الخاصية الإبداعية لمحمد طالب محمد شاعراً..؟
- هذا سؤال اتفق معك عزيزي على جزئه الأكبر، مَنْ يكتبون شعراً
كثار لكن الشعراء قليلون جداً وأتذكر إن الشاعر البريكان كما يذكر الصديق الشاعر
عبد الكريم كاصد يرفض أن يُكتب أي توصيف مع كلمة شاعر، لأن أي توصيف لا يسمو إلى
صفة (شاعر) . محمد كان يتعامل مع الشعر
على انه الحرية حينما يكون الخوف والإرهاب والفقر واللاعدالة الاجتماعية هي
القاعدة، إن ميزة محمد طالب محمد الشعرية هي احتفاؤه الكبير باللغة العربية
واستخدامه للغة وكثافتها، انه وبسبب من تربيته الكلاسيكية، اهتم بالمفردة اللغوية
وتستطيع أن ترى في شعره وقفاته وصوره، صوره الباهرة في مخاطبته للبحر والعشب والإنسان
وللماء وللأسرار، واستخدامه الأحلام في القصيدة ثم هذه النثرية والسردية المصفاة.
هذه علامات مهمة شخّصها أدونيس في بداية السبعينيات واحتفى بها، لم يكن اهتمام
أدونيس بشعر محمد طالب محمد جزافاً، احتفى به دونما معرفة سابقة، احتفى بنصّه
اولاً ونشر له في مجلة (مواقف)، وطالبه بمعلوماتٍ تعريفية، وهذه لم تكن سهلة في
السبعينيات على الأقل، لقد احتفى به عبر قصائده التي أرسلها له في البريد
وبواسطتي.. احتفى بنصوصه أولاً.
* هل تعرّف القراء بقصيدة محمد طالب الأخيرة، أقصد موقفه الإنساني
والتراجيدي الذي أدّى إلى استشهاده...؟
-ـ احتفى هو بالموتى، صديقه عبود الذي غادره ليلاً ثم توفى صباحاً،
و احتفى بصديقه مصطفى عبد الله، ونشر
قصيدة رثاء له، وعاد مرة أخرى وأهدى لروح مصطفى عبد الله قصيدة نشرها في مجلة
اليوم السابع التي كانت تصدر في باريس وتصل لنا.. وكان موت محمد عراقي التفاصيل.
لقد اختزل صديقه الشاعر(فوزي كريم) هذا الموت بمقالة له سمعتها مرات متعددة لأنها
كانت تذاع في إذاعات المعارضة العراقية السرية، كان عنوانها (محمد طالب محمد...
الهروب من الموت إلى الموت)، ذهب محمد طالب محمد إلى الجزائر واستوطن هناك، وأسس
عائلة وأولاداً وفي الهجمة الهمجية التي قادها الفكر السلفي الإرهابي المتوحش
القادم من الكهوف الأولى لما قبل الحياة الإنسانية، تم إصدار فتاوى، وما أكثر
الفتاوى التي صدرت أو التي ستصدر. فتاوى تمنع التعليم والتدريس، وخاصة الدراسة
المختلطة، الفتاوى السلفية التي صدر مايشابهها في العراق, بعد تحريره من نظام
القتلة البعثيين و في بداية العام الدراسي عام 2004 ، ما الذي يفعله العراقي (محمد
طالب محمد) التنويري عاشق الحياة المدنية والرقي الإنساني، هل ينحني للإرهاب..؟.
لم ينحنِ، لقد تفعل وفعّلَ موقف الطلاب وحثهم على الدوام متحديا فتاوي الظلام كما
يفعل العراقيون الآن، وأفشل بحرصه وممارسته هذه الفتاوى. في اليوم الأول خاف
الناس، لكنه كان أول الذاهبين إلى المدرسة الثانوية المختلطة ، وكسر هذه الفتاوى،
وكان محمد طالب محمد واقفا في ذلك اليوم في باب المدرسة كما نُقل إلينا، وحاور الإرهابي
السلفي التكفيري، العراقي محمد طالب محمد في الجزائر بالطريقة التي يحاور فيها الإرهاب
العراقيون اليوم، فاخترقت رصاصة جمجمة محمد وسال دمه في باب المدرسة، كما يسيل دم
العراقيين آلآن، لقد تقطع قلب محمد طالب محمد على البصرة في حرب تحرير الكويت، فكتب قصائد عنها منها(سفر
الخروج ). وأسجّل حقيقة الوفاء والاعتزاز من قبل الشاعر حسين عبد اللطيف لمحمد
طالب محمد، فقد كان وفيا جداً، و أقام له جلسة استذكارية تأبينية صباحية في عام 1996 في اتحاد أدباء البصرة في
مقره "الموحوسم آلآن" وكانت علنية ونوّه إن محمد قد غادر العراق لأسباب
خاصة، وأقيمت الجلسة وساهم فيها مجموعة من الأدباء والشعراء أصدقاء محمد ,وكانت في
حينها جرأة كبيرة, ومنهم الأستاذ عبد العزيز عسير بقصيدة عن محمد طالب وملذاته
اليومية، وخاصة في لعب (البليارد)، وساهم
جميل الشبيبي، وقرأ حسين عبد اللطيف مقاطع من قصائد محمد طالب محمد عن البصرة في
حرب الخليج الثانية أيام القصف الأمريكي، و تحدث فيها عن بعض أمكنة بصرته القديمة
ومنها، أسواق (القطانة) و (العقيل) و (جسر الغربان) ومقهى (هاتف) ورواده، ثم انتقل
إلى (الداكير) وتساءل عن مقهى (حبش) و(ساعة سورين) ان موت محمد على يد الإرهاب وفي الجزائر لهي
الشهادة الحقيقية في إن العراقي وإن لن ينجو من الإرهاب والإرهابيين إلا انه قادر
على تحديه وتحديهم كما يفعل الان.
* ألا تعتقد بأن طبع منجز الشاعر المرحوم محمد طالب محمد هو بمثابة
بعثه من جديد..؟ وبهذا الصدد ما الذي تقترحه، وبخاصة على وزارة الثقافة واتحاد
الأدباء في البصرة وبغداد..؟
-ـ أنت قلت بأن محمد طالب
محمد، مجهول وهذا حق، فعلاً مجهول، فقد طبع ديوانه، الأول (التسول في ارتفاع
النهار) على نفقته الخاصة عام 1974 بعد
عودته من الجزائر، ولم يساهم في المهرجانات الثقافية لأسباب معروفة. استعيد هنا ما
قاله أخي وصديقي الشاعر (عبد الكريم كاصد) في مقدمته الرائعة لديوان (الأجنبي
الجميل) للراحل ( مصطفى عبد الله) واستطيع أن استبدل اسم (مصطفى عبد الله) بأسماء
الراحلين ومنهم (جبار العطية، ومحمد طالب محمد، وفالح الطائي، وذياب كزار-أبو
سرحان- وعزيز السماوي ومصطفى عبود- أبو النور- وخليل المعا ضيدي وقاسم محمد حمزة
وحميد ناصر الجيلاوي وحميد مجيد مال الله والعزيز مهدي محمد علي .. وآخرين).. قال أخي
الشاعر (عبد الكريم كاصد) في مقدمته لديوان الفقيد مصطفى عبد الله-: ((لسنا نحييّ
الموتى ولا شاعرنا بالميت وما نحتاجه هو التفكير لا من اجل فائدته هو فقد ذهب وبقي
شعره، لكن من اجل فائدتنا نحن الذين شغلتنا الأحداث والاحتفاء بأنفسنا عن تأمل أنفسنا
وتذكر ما غاب منا ومما يزيد المهمة صعوبة إن شعرا يحتفي بالناس قد ينصرف عنه
الناس، في زحمة مشاغلهم والاكتفاء بما توفر لهم من ثقافة النجوم في سماء ما هي إلا
بقعة ضئيلة من سماء أوسع وقد يقترب من هذا مصير شعراء كبار من تاريخنا الشعري، ندر
من يتذكرهم بدراسة جادة في السنوات الأخيرة بعد أن صار النسيان هو القاعدة
والذاكرة هي الاستثناء)).. هذا ما كتبه صديق
العمر الشاعر (عبد الكريم كاصد)...الذين غابوا يا صديقي من صفوة الانتلجنسيا
العراقية في المقابر الجماعية وفي المنافي كثيرون والمصائب والمصاعب التي تواجهنا
حاليا أكثر. المؤسسة الثقافية العراقية إن كانت ملكا للدولة العراقية، لا نطالبها
بإقامة مهرجان وتماثيل.. لا نريد في
العراق قبوراً جديدة.. فلدينا من القبور ما لا يوجد في أي ارض أخرى.. ما نطلبه هو
جمع ماخلفوه من كتابات متنوعة و طباعتها
طباعة لائقة لغرض التعرف على نتاجاتهم والحفاظ على ارثهم الإبداعي - الثقافي ليكون
في متناول الأجيال القادمة، ولتحتفظ الذاكرة العراقية لهم بمكان متميز بدلا من
النسيان الذي سيطبق عليهم وعلى ما تركوه .. هذا مطلبنا وهو مطلب ليس صعباً على بلد
يعتبر من أغنى بلدان العالم بثرواته التي بُددت سابقا .. وتُهدر الآن بشكل ربما أكثر
سؤاً مما سبق .
في ذكرى محمد طالب محمد:( الشاعر)
كتب جميل الشبيبي
لم
يكن محمد طالب محمد إلا شاعراً.. امتلك الشعر كلَّ منافذَ روحه المرهفة، وتغلب على
كل نزعة حية في كيانه النابض بالحيوية والشعر الصافي.. وكان إبناً بارّاً للابتكار
في كل شيء: في سلوكه مع أصدقائه، في طرائفه الجديدة التي تنتمي إليه دون غيره..
وفي كتابته للشعر. كان نموذجاً خاصاً، محتفياً بالحياة على الرغم من مراراتها
ومصاعبها الجمّة.. خصوصاً في تلك الفترة المهلكة - فترة منتصف الستينات-: حيث
تعطلت الحياة بعد النكبة السياسية الكبرى التي خلفتها أيام 8 شباط الدامي وراءها...كنا
مجاميع مختلفة في الرؤى والأفكار والانتماءات السياسية، منتشرين في بقاع مختلفة
على خارطة الوطن الجريح.. نعيش كابوساً اسمه (الضياع) اذ لم تعد الايديولوجيات
مقنعة ولم تعد الانتماءات الحزبية مجدية بعد الهجمة الشرسة في ايام شباط 1963..
التي دمّرت كل شيء وخلفت بقايا ذوات تندب وتتعذب.. ذوات تلتجئُ الى أعماقها المرهفة
الممزقة لتنشئ صروحاً من خيال في الشعر والقصة والرواية والفن التشكيلي. وكان محمد
طالب محمد ناراً مشبوبة بالحيوية والنشاط: يلعب البليارد في مقهى (هاتف) بالبصرة
مع مجموعة من الشباب لاعلاقة لها بالأدب والشعر، يوزع طرائفه المبتكرة على رواد
المقهى.. يحاور (الزاير) و (سعيد) عاملي المقهى- وحين يجلس معنا، نتحدث عن كل شيء،
لكنه يصمت عند الحديث عن الشعر.. لأن الشعر كان محرابه الخاص الذي لايتنازل لأحدٍ
عنه...ولد محمد طالب محمد بداية الاربعينات من القرن العشرين.. لأب شغوفٍ باللغة
والدين ومجالسة الأدباء ومناقشتهم.. وكان والده صديقاً لنا جميعاً- يحضر جلساتنا
ويستمع لأفكارنا ونتاجاتنا.. يشجع ويصحح.. وكان محمد ابنه الوحيد الذي يود ان
لايفارقه أبداً.. وكان على قناعة تامة بشاعرية ابنه على وفق المواصفات التي تنطبق
على الشاعر.في مثل هذا الجو نشأ الشاعرـ متعلقاً بدرس النحو وبديوان الشعر العربي،
يغترف من جمالياته فتشرق روحه بذلك الصفاء وبتلك الحياة المتطلعة نحو آفاق رحبة
لاحدّ لها...هاجر الشاعر الى الجزائر بداية السبعينات، بعد ان أصابه اليأس من
انتظار تغيير مجدٍ وأصيل في الحياة العراقية... واشتغل هناك مدرسا، وتزوج من إمرأة
جزائرية. وقد جرّب العودة الى وطنه معها، فرحا وهو يعرّفها بأصدقائه وعوائلهم،
مزمعا البقاء في وطنه.. غير أن فراسته وتجربته المريرة مع قوى الشر، واستقرائه
للاوضاع القادمة في وطنه وهي تدشن عهداً جديداً للارهاب، أجبرته على العودة
منكسراً الى الجزائر.. وقد تحقق حدسه وفراسته بصعود الطاغية صدام حسين الى السلطة
نهاية السبعينات وماحدث للعراق بعد ذلك من ويلات وحروب ودمار..كان الشاعر مشغولاً
بتأثيث خطابه الشعري بالجديد المبتكر المؤهل لأن يعيش في فضاء العدالة والأمان،
لكن الأيادي البغيضة التي هرب من كوابيسها في العراق..كانت تترصد خطواته في الغربة
أيضاً.. ففي منتصف التسعينيات اغتالته الايادي السلفية الغادرة، التي تقتل اليوم
آلاف الأبرياء في عراقنا.. وكان الشاعر في مركز العلم: مدرسته..!!
* * *
نشر
الشاعر محمد طالب محمد ديوانه الوحيد في العراق (التسولُ في ارتفاع النهار) عام
1974 ، بعد عودته القصيرة الى العراق.. ويضم هذا الديوان اثنتي عشرة قصيدة، تمتاز
بأبنية مكثفة ومركزة، لكنها مع هذا القدر من التكثيف في الجملة الشعرية فإنها تميل
الى الطول في شكلها، حيث يبلغ معدل صفحات القصيدة الواحدة بين 6-15 صفحة من قطع
الديوان..وقصائد الشاعر هذه، تنحو منحىً مفارقاً في أبنيتها ومجازاتها المختلفة
للنماذج الشعرية التي أفرزتها تجربة السبعينيات الشعرية في العراق... حيث كان
الميل نحو كتابة القصيدة (اليومية) التي تستقي موضوعاتها من دافع الحياة وتؤسس
مجازاتها على هذا الواقع.. وتتضح هذه المفارقة، بذلك النزوع الأصيل لدى الشاعر نحو
عالم الذات المتعالق مع إشكالات الوجود الكبرى التي تجد لها مناخاً ملائماً في
ازدواجية اشكال العلاقات البائدة والمتحجرة التي تكتم الانفاس وذلك النزوع نحو
عوالم طليقة ومشخصة برموز وشواخص دالة عليها تمجد الحركة والنماء.. انها رحلة
امتحان عسيرة في حياة رتيبة تحرسها الوساوس والليالي الموغلة بالسواد والكلاب
الناهشة (الأكلب كما يسميها الشاعر) والوحول الكثيفة التي تكبل الذات وتذيقها
مرارات من الحزن والموت البطيء...
وعادَ
الليلُ والأكلبُ تغتال
طريقي،
تفتحُ الغربة في قلبي ؛
فتذروني
صلاةً، من لَدنْ تشملني
الرحمة
حتى مطلع الفجرِ... وإني
مُثخنٌ
بالوحلِ... مسفوحٌ أمامَ
القتلِ..
يستحلفني الناسُ بأنّي
فاسقٌ........
(قصيدة
المعضلة)
إن
الشاعر وهو يغادر وطنه، بعد ان أوشك على الوقوع في مستنقع الشر والقسوة والإذلال،
فيلتجئَ الى الجزائر، كي يجدد حياته ويعتق روحه، لكنه لايجد سوى أجواءٍ مماثلةٍ
تحيل حياته الى عذابٍ مستديم ووحدة قاسية:
وكنتُ
أقضّي
الليالي
منكفئاً في سريري
نورساً
ميّتاً
فوق
مستنقع الملح، واهنةً كتفاي
لاأطيقُ
حراكاً..
نداءات
شعرية عميقة تنحتُ في فراغ الغربة وكوابيسها، أفقاً أخضر للقادم الجديد.. أنشده
قصائده الطوال وحاوره حواراً حميمياً متصل الفقرات وكانه روحه الهائمة التي يبحث
لها عن ملاذ آمنٍ يحميها من هذه القسوة وتحجر الكائنات من حوله، لقد انشأ الشاعر
عالماً رحباً من المجاز، تميز باللغة الخاصة التي تتحول المفردة فيها من معناها
الاستعمالي الى معنى جديد، يرتبط بشكل وثيق بسياقات الجملة الشعرية التي ينشؤها...
ومن خلال لغته الخاصة هذه، أضفى على موجوداته أفقاً من الجمال والشفافية والانفتاح
على الدلالات والتأويلات...وأصبحت القصيدة لديه صورة مشخصة وحيّة يتناوب في فضائها
المشهدي والسردي، بعلاقة وثيقة، ويتناوب على إنطاقها ساردون يظهرون ويختفون بصيغ
الضمائر المعروفة: الغائب، المخاطب، والمتكلم... وفي بعض الأحيان تتناوب في إنشاء
المشهد الشعري أو السردي أصواتٌ يتداخل فيها الذاتي والجمعي.
إن
إدامة الصوغ المشهدي والسردي في كثير من قصائد الديوان، يأتي هنا ليحقق ذلك
التواشج بين التجربة الذاتية وبين فضاء الموضوع الرحيب.. فالسارد العليم يضفي على
التجربة عموميتها، في حين يعمق السارد الذاتي تلك التجربة ويحيلها الى استغاثات
انسانية شغوفة بالحياة والجمال والابتكار.. ويتضح ذلك في قصيدته (مقتطفات من ميناء
منسي) وكذلك في قصائد اخرى كثيرة...تبدأ هذه القصيدة من كناية مألوفة عن شخصية
البدوي، ولكنها تتعمق بالمجازات والصور الشعرية الجديدة المبثوثة في ثنايا
القصيدة... كما يتضح ظهور الضمائر واختفاؤها في هذه القصيدة التي تصور الانسان-
العربي بشكل خاص- وهو يخوض غمار هذه الحياةالمعقدة:
جاء
رضيع النياق التائهة
في
الفلوات الرملية، واستوطن الزقاق
المتعرجَ...
صبغَ الأبواب
بالألوان
الباهتة... اجتذبَ الصرخة،
في
الليل وغناها...
وفي
مقطع آخر يلجأ الى الخطاب المباشر-:
أنتَ
البدويُّ
الهاربُ
من صحرائك
لو
لُعنِتْ كلُّ بقاع الدنيا
تبقى
صحراؤك طاهرة
بعد
ذلك تتشكل التجربة بذلك المخاض الاليم المشخص بضمير الأنا وهو ينشدُ من أعماق
الذات تكريساً لهذه التجربة-:
لن
أقفَ الليلةَ خلفَ النافذةِ
منتظراً
نور الفجر
الآتي
بين صياح الديكة
سيفاجئني
البرد
شتاءً
مخنوقاً
بالوحدةِ
والصحبة والأمطار
وسأبحثُ
عنك طويلاً..
إن
التناوب في استخدام الضمائر في بناء القصيدة، يشكل أساساً مهماًَ في بنية القصيدة
لدى الشاعر محمد طالب محمد.. فالضمائر تتداخل في صياغات مبتكرة وصور غير مألوفة،
ويتضح ذلك في استعمالات الشاعر للمجاز في قصائده، حيث ترتدي الاستعارة والتشبيه
والكناية وأنواع المجازات الأخرى اشكالاً جديدة... ويبدو ذلك جلياً بدءاً من عنوان
الديوان (التسول في ارتفاع النهار) فيصبح الشعر تسولاً لابمعناه الحرفي، ولكن
بمعناه المجازي الذي يحيل التسول الى تساؤل عن معنى الوجود والحياة في الظروف
القاهرة والمستبدة.. ويعمد الشاعر الى ان يكون هذا (التسوّل/التساؤل) في ارتفاع
النهار وأمام الانظار التي لاترى في الحياة سوى استهلاك ومتع زائلة.. في حين يجدُّ
الشاعر في أسئلته التي تتضمن أجوبة في أفق مفارق-:
أعشقُ
بردَ السَّحر
الآتي،
في الأفق الشرقي
أسبح
في رعشته
وأهادن
ظمئي
ارتعشُ
عشباً
في رابية
مأخوذاً
بالعصيان.
(من قصيدة
السياحة)
وإذا
احتكمنا الى مجازاته الشعرية الجديدة وصوره المبتكرة التي تضمها قصائد الديوان
فإننا سنغرق في عالم شعري متدفق يفيض بالسحر والجمال من خلال ذلك التواشج بين
المفردات المتباعدة في المعنى المتآلفة في الصورة الشعرية.. فالصفة عنده لاتتوافق
مع الموصوف او انها تحاول ان تتمرد عليه لتضفي سياقاً جديداً يحمل الطرافة
والابتكار.. من أمثلة ذلك: (الأمكنة الجاهضة)،(تنبحني الأكلبُ في ليلٍ وضيع).إنّ
تآلف هذه المفردات في سياقات شعرية، تشكل لدى الشاعر إثراءً وتمرداً في آن واحد،
تفتح للمتلقي كوىً وآفاقاً واسعة تبيح له تأويلاً دون حدود...
أنا
أرديةٌ مسكينةٌ
تنهرني
العقبان محومةً حولي
في
هذا القهر، فلن أقرأ
...إني في القهر
أقعي
كالبركة تحت الغيم
منتظراً
أن تصل الرحمة...
(قصيدة المعضلة)
وانا
أكبحُ النومَ ملتحماً بالنجوم
في
الهزيع الضبابيَ
يوهنني
البردُ
وتماطلني
غابة الحزن
(من
قصيدة الفتوح)
وفي
قصيدته الطويلة (التسول في ارتفاع النهار) تتوالى الصور بمفرداتها الغريبة غير
المتألفة لتنسج مجازات غير مألوفة تعمل على تخطي السائد من الصور الشعرية، لتبقى
متفردة وعصيّة على غيره من الشعراء.. وهي تكشف شاعرية مسكونة بالمجاز الجميل
والشعر الصافي المتألق-:
( فالنوافذ أجنحةٌ
والحوائطُ
والشجرُ المتطاول رفرفة
وزعيق...
يجيء)
أو-:
( هذا جناحي “أريد”
نوارس
هيمى
سواحلَ
هائجة ومصباتْ
تهوي
المياه عليها... تمزقها
وأريد
مضارب للموج صخريةً
وزوارق
مربوطةً
سمكاً
وسجائر...
داراً ونافذةً)
لقد
كان الشاعر محمد طالب محمد، جملة شعرية لاتنتهي، تنهمرُ فيها المجازات وتتداعى
عبرها الصور لتؤلف سمفونية ضاجّة بالألم والمعاناة والرغبات المستحيلة.
---------------------------------------
ما يزال
العسل في الجرار
يعرب
السعيدي
هل
حاول الشاعر الغريب القتيل محمد طالب محمد تخليق حكاية موته أم أن إحساساً سرياً
مروعاً كان ينتابه بنهايته وانعكس في شعره..؟، وهل كان واقعاً تحت سطوة رؤية
داخلية لمعنى الزمن في أفعال الأمر التي تهوي كالمطارق لرسم شكل الموت الآتي:
(طاردوه.... أقتلوه غريباً
أودعوا
قبره غابة
وموانئ
نائية)
وهل
كانت هذه الافعال الصارمة (طارد، اقتل، اودع) تعبر عن زمن التوتر الذي كان الشاعر
يحيا فيه يائساً ضائعاً او مضيعاً، وهل يمكن الاستفادة من المعاني الدراماتيكية
لتلك الأفعال لاستجلاء الحالة النفسية لغريب نأى عن وطنه في الموانئ البعيدة، لكن
اسلوبية اللغة في شعره تعنى بتنظيم السرد كاستجابة عقلية واعية (مطاردةــ قتل ــ
قبر) في معان يتناسل بعضها عن بعض لرسم المشهد الشعري كنتاج واع لموت الشاعر في
غربة نائية.سنحاول متابعة هذه الافعال الثلاثة في مجموعته الشعرية الأولى (التسول
في ارتفاع النهار):
(الليل طريد
مثلي
بين
الآناء المجهولة)
وتلك
مقارنة بين متشابهين (هو والليل) كلاهما طريد في المجهول في مشهد عياني مغلق بلا
حركة فعل او فعل حركة، بل صورة بصرية ينتجها تحالف المفردات الجامدة مع بعضها من
أجل إشاعة عنصر الثبات في المشهد الشعري الذي يبدو كلثام ثقيل يختفي تحته كل
(المسكوت عنه) في معنى (الليل الطريد) القائم على ثيمة لامرئية ولكنها شاخصة في
الليل وفي الشاعر معاً، كما ان الالتجاء للتشبيه يجيء هنا للمبالغة في انتظار
المصير الذي لاتكتشفه محسوسات الوجود الانساني كونه ضائعاً في سديم الآناء
المجهولة.وكأن الموت قد تأخر عنه او نسيه وهو الذي يبحث في الموت عن توازن روحه
الشفيفة، فيصرخ به:
(افتح بابك للغريب،
يا
ذا النفس الخربة..
افتح
بابك لي.)
...........
(يا ذا النفس الخربة
إن
لم ترني عيناك
الناسيتان
فإنك اعمى
آه...
يا
ذا النفس الخربة.)
لقد
كانت (ذات) الشاعر تتمحور حول الموت وكان الموت يتمحور فيها، أي انهما كانا
متجاورين تماماً، والشاعر لاينفك يطرق باب الموت كروح مطلقة، ليبحث فيه عن لغز
الرؤية الداخلية لمعنى الوجود من خلال الموت، ولعل الفعل الشديد (افتح) ينم عن
استغاثة او رغبة في الرحيل، فالشاعر يعدّ عدته ويتهيّأ:
( أنشر كفني
وأطرّزه
بالطيور.)
إذن،
ثمة وعي حياتي مقابل الموت، فالشاعر لايتخلى عن حقه في الحياة وهو في إطار مغامرة
الموت، ففي (نشر الكفن) دلالة استقبال المغامرة، وفي (التطريز بالطيور) دلالة وعي
بجمال الحياة، كما ان المفردتين المتقابلتين (الموت/الطيور) تشكلان امتزاجاً بين
الحياة والموت،وبين رغبة الشاعر في ارتياد المجهول المخيف بمعادل موضوعي جميل بشكل
الطيور المطرزة على الكفن، حتى لكأن الكفن جناح طائر.
ترى/
ما حال هذا الغريب البعيد عن وطنه، هل يحب النهار في منافي الغربة وهل تراه يأنس
الأشياء كما يأنسها غيره، وهل أن حقائبه هي نفسها حقائب المسافر..؟:
(هل رأيت الحقائب، كالحة كالنهار
إنها
غربة وشتاء.)
ثم
ماهي معاني حواراته مع نفسه، وكيف هي حوارات حديثه الداخلي، هل تأخذ معنى الضياع
الأليم او الحلم الطاهر؟:
( أنت البدويّ الهارب من صحرائك
لو
لعنت كل بقاع الأرض
تبقى
صحراؤك طاهرة.)
هو
نفسه حديث الغربة وثبات الذاكرة الأولى وصراع النفس في البحث عن الطمأنينة في
أحضان الأم واستيقاظ العقل في التواصل مع الجذرالأول في حومة الصراع بين المنفى
والوطن:
(وكنت أقضي الليالي
منكفئاً
في سريري
نورساً
ميتاً.)
إن
الغربة تخلق عناصرها الفاعلة (هو والمكان والزمان) في إطارٍ من المعاناة النفسية
التي تحيط بالتجربة وتتغلغل فيها فتفضح خباياها على نحو لا يكاد يحسّه سوى الشاعر
الغريب في بلاد نائية.
(لكن الليل يجيء
وتغافلني
الأشباح
المدروسة
كقبور)
ولاتبدو
الأشباح الا في وحدة الشاعر بغربته، والوحدة اشتهاءات تخلخل خرائط الحياة، وأصوات
تضجّ في الوعي للتعبير عن رؤى الضياع البشري، ولكي تكتمل صورة الغربة لابد أن تاخذ
التجربة كامل أبعادها الانسانية لكي تتمظهر فيها شخصية الانسان الواقعي لا الانسان
النبي،وهكذا يرسم الشاعر مشهده الشعري ويعبر عن عطشه الصحراوي مرمزاً بالمرأة:
(حين تمرّ النسوة،
مبتلات
تحت جرار مخضرّة،
ترشح
أنداء.
أعطش
وحدي،
ألهث،
ألقي
فوق الرمل لساني
جرحاً
يدفن في الملح
مفغوراً،
ينتظر الفرج.)
هذه
صورة ينتجها الوعي وتنظمها سلسلة علاقات ذات حرارات خاصة بين الشاعر ومحيطه
الغريب، وهي صورة تقوم على بنية تشكيلية تأخذ شكل اللوحة الفنية من خلال تآلف
دلالاتها ومفردات أسلوبها، وتبقى الغربة كدلالة مختبئة في المشهد هي الثيمة
القصدية في بنية تكوين المشهد، والزمن هو الذي يشكل علامات الاستدلال عليها، فأين
المكان في تكوينات غربته..؟
(تائه في المقاهي
الشوارع
موغلة
في
التضرع، والبؤس منهمر
والفوانيس
صفراء ذابلة.)
وهكذا
تبقى أنظمة الدلالات قائمة في الصور البصرية الماثلة بوضوح.لقد كان الشاعر يتحدى
الغربة بالحنين الى صحرائه الأولى أو بالفناء في الموت. وهذا ماحصل.
محمد طالب محمد ينقر أبواب
الذكرى
محمد صالح عبد الرضا
إذا
ما حاولنا تفسير تجربة محمد طالب محمد الشعرية من لمس مضمونها الذي يتخلله شكل
يقدمه بصوره ورموزه وموسيقاه الداخلية والخارجية وإيماءاته الاستعارية وهو يمارس
وظيفة اجتماعية إبداعية في شكل يتداعى من خلال المضمون والمعنى.لقد اعتمل الواقع
الاجتماعي المستلب في تجربته الشعرية والعوامل الخاصة بالشعر كمجموعة من الخصائص
النفسية والذاتية لذات متعددة المعالم في اختيار الكلمة والرمز والصورة فكانت
مكوناته الشخصية صدى القدرة على التأثير والاقناع الجمالي، وأكد محمد طالب في شعره
حقيقة استجابة الشعر الجديد للمفاهيم الانسانية الفوارة ليس بالمباشرة والتقريرية،
وإنما باستخدام وسائل فنية تحتوي المضمون وتمثله وتعبر عنه في إطار الوجدان
الاجتماعي.إنه من جيل الستينات الذي عَدَّه النقاد أكثر الموجات الشعرية إثارة
وعمقاً في الشعر العراقي الحديث والذي جاء لحاجة فكرية وإبداعية لتجسيد رؤية جديدة
للشعر والحياة وللعصر والتراث وسط ركام من الخيبات السياسية ومواجهة الاهتزازات
الكبرى في العراق والعالم.والستينيون بحثوا عن أفق أغنى للقصيدة، وكان هاجسهم
التجريبي متنوعاً في الرؤى التي تمتزج فيها المواقف بالنصوص، وكانت تأثيرات قراءة
الفكر اليساري والوجودي تلقي بظلالها على الشعر الستيني حيث ضغط الحياة، وعذابات
النفوس وبراعات البناء الشعري وتعددية أصواته.تعرفت على محمد طالب محمد وصديقي الشاعر
شاكر العاشور أوائل عام 1966 شاباً طويل القامة كثيف الشاربين ذا ملامح هادئة
دمثاً ودوداً جاداً في إخلاصه للشعر، متقناً لأسرار اللغة الشعرية تراثا ومعاصرة،
وكنا نلتقيه لماماً فندرك رهافة حسّه وهو يتخذ قلمه ريشه ينقر بها على وتر الشعر
الذي صار عنده ارتسامات الروح، ولقد بعدت بيننا السبل لكنه ظل دانياً منا بقصائده
المترعة بالرؤى الخصبة.
إصابة بليارد *
عبد العزيز عسير
إلى روح محمد طالب محمد
المقهى
مدينتك الوحيدة
تصلح
للهروب
والصمت..
ستارتك الممزقة
تسمح
خرومها بمرور أغنية لفيروز
وطاولة
البليارد... انحناءتك الأخيرة
قادرة
على أغاضة الرسيل
تتأبط
يدك العصا الطويلة الناعمة
وتمتد
لي يسارُك
والمصافحة
باليسار دفء قادر على ايلاد حاسة اللمس
في
يد تنازلت سنوات عن حق الترحيب
-
لا بد من إكمال اللعبة!
كرة
حمراء
وفرقعة
بالألوان الأخر
ربما
سبعة مثلثات .. أو عشرة
تتقاطع
في سجن الطاولة
نسيت
اللون المصاب
واذكر
انه كان المصيب الوحيد
فالإصابة
الرائعة تمر بلا تصفيق
-
كم ربحت اليوم؟
-
خسرت نصف دينار!
الشعراء
المشاهدون
لا
يفكر واحد منهم بمرثية أخرى
لضفيرة
ترش عليها العطور
فضربة
سددت بالتسلل الكروي
قادرة
على تبرئة العصا
من
دم قبر مرت عليه الفصول
*** *** ***
يا
جبال أوراس
سأحترم
سيف جدنا .. وأسباباً تعددت للموت
وأبرئ
سيارة طائشة في (كازا بلانكا)
ورصاصة
طائشة في غابات (وهران)
وعصا
بليارد طويلة لا تمس الضحية الفارة
إلى
الشمال الإفريقي
هل
يوحد الفرار من المقهى
هوية
مزقت نصفين؟!
سيدي
المفوض
اعطني
النصف الثاني
لأكمل
مرثيتي
------------------------
(الى محمد طالب محمد)
مرثية
مجيد الموسوي
نجمةُ
في
الاعالي
تلوٌحُ
لي
عشبة
في البراري
تستديرُ
إلى غابتي
وتنام
جواري
هكذا
لم
أجْد
غير
هذا السراب يحاورني
ورياحِِ
القفار
نجمة
هربتْ من يدي
ومضت
للمدار
.....
.....
ثمْ
لم
يعد ذلك الطفل الجنوبيّ
يأتيني
إلا في الاحلام
متسربلا
بدمائه
ودموعه
مشيرا
بأصبعه
الناحلة
الى
جهة الرصاصة
التي
خرقت الصدر
واستقرتْ
في
الفؤاد!!
الرصاصة
التي
تذكّرنا دائما
بوحشية
الذئاب
وبراءة
الظبية
البصرة
مختارات من
قصائد محمد طالب محمد
(1)
لمّا
تهبُّ رياحُ الشتاء الأسيفهْ
نضيعُ..
نضيع..
ولا
غير ذكرى تراءى عليها المساءْ
حكاية
وجدٍ
وبسمة
عُمْرٍ، سرى في حنين المواقد والجبهةُ المتْعَبَهْ
وثمَّةَ
دارٌ تطوفُ بأفنائها وحشةٌ مُترِبَهْ
ولا
غير ذكرى أسيفهْ..
وقبضةِ
ريحٍ ، تلوَّى عليها الشتاء.
(2)
هنالك
كُنَّا نعي؛ أنْ يجوعَ الصغارْ
وتنقرَ
أبوابَنا الجنُّ.. (ياللوجوم الرهيبْ!)
ويحمله
النسر، عبرَ البحار.. وعبر الجبالْ..
إلى
الوادي..
تحتشدُ
الجنُّ في الظُلماتْ،..
وتنقر
أبوابَنا.. وينامُ الصغارْ
وفوق
المعابرِ تهربُ ريحُ الشتاء،..
تخلّفُ
في الظلمةِ الخوفَ.. (تنقرُ أبوابنا).
* * *
تركتُ
الشبابيكَ مفتوحةً،
تبيتُ
بها الريحُ تُعْوِلُ، تحملُ صوتَ السعالي
ستقتلني..
وتراخيتُ فوق سريري
وكان
عويلاً حزيناً.. وبَرْدا
وفي
السحر المستفيق،
رأيتُ
رفاقي يسيرون نحو الحقول، (وقد كنت حيا)
(3)
لأختي
قبرٌ تمرُّ عليه الفصولُ، ويرقدُ في ظلِّ نخلهْ
تآكلَ
تحتَ الهبوبِ، وأَطْفَلَ فوق ثراهُ النهارْ..
نهاراً،
وأَطفلَ ليلٌ، وفصلٌ.. وعامْ..
وكنتْ
أؤمُّ المقابر تحت ردائي أسى
وفي
مقلتيَّ ضياعٌ صغيرْ.
وكانت
لأختي ضفيرهْ..
.. ترشُّ عليها العطورَ، وكانت صغيرة..
* * *
ومن
بيتنا امتدّ دربٌ عتيقْ
ترشُّ
عليه النخيلُ ندى وظلالا
يؤوب
ابي منه، يحمل عبءَ النهار،
وظلاً
تطاول خلفَهْ،
وشوقاً
كبيرا.
وفي
البيت تطربُ أصواتُنا، وتعانقُ كفَّهْ
وحين
اروح إلى غرفتي، أرقبُ الدربَ يشحبُ تحت الظلام؛
كئيباً
أراهُ، كئيبا.
(4)
تكونُ
رياحاً بلادي..
إذا
اهتزَّ أيلولْ تحت الخريف الحزينْ
وظلّت
مزاهرنا يستحمُّ عليها الغبارْ
تكون
رياحاً، وننأى
نرود
المقاهيَ في سُدَفِ الصمت، شيئاً وضيعاً
وليست
لنا مدنٌ للهروبْ.
سيرة
كان
يسير على هيأة غابة
محتفلاً
بالشمس وبالميلاد وبالعقم
لم
توهنه أسفار .. كان على هيأة غابة
يستوقد
في الاشتاء كثيراً من اعوامه
ويطل
على النهر يصيد السمك صغاراً في سلة
أبصرني
في ليلة صيف أتنزه في بابي
وتقاطعنا
يوماً في درب الحياة ومضى
ذو
وجه أصحر يقبع في حلم داكن،
عن
أرض تولد في الشفق الغربي
بظاهر
بيته
وتغص
بأعشاب وحشية
ذو
وجه لا يمكن أن يبصر يوماً ..
إلا
في سوق مظلمة يبتاع الخبز
او
خلف وجوه الناس يصلي في المسجد
ويرود
غمار الحزن، بعيداً في أرجاء رؤاه
عيناه
عبور في يوم موحش
لموانئ
تعتو منها ريح نكباء
تتفجر
من جوف الظلمات
أبصرني
وتحدثنا عن موت الاعشاب
أعطاني
فلساً مثقوباً وكتاباً
عن
حُرَف الناس، وعن غرب ينمو
حول
ينابيع الماء بأرض لا أعرفها
حين
رأى أمتعتي تخترق الشارع
أطلق
عينيه الجامحتين فأمسكني
قال
أذهب في هذا الدرب
واسر
لي الاسرار الكبرى
لكني
لم أر وادي المغربي المغبرّ
ولم
أره بعد
ولا...
صوتَ...
لادارَ...لا أسفا
غائباً
في الظلام الفسيح.
ميناء
منسي
أنت
البدوي،
الهارب
من صحرائك ..
لو
لعنت كل بقاع الدنيا،
تبقى
صحراؤك طاهرة ..
وقديماً،
طردوك
..
فلم
تبك الصحراء ..
لانك
بدوي ..
ولأن
الكلأ المتروك بلا رعي،
أصبح
بدوياً آخر،
يأتي
ويروح، ..
وانت
سجين،
في
طرق بائسة،
نائية
عن صحرائك!
عن
الاسفار والحزن
1- تاريخ
منزرعاً
في الأوجه، أخشى الطرقات
جئنا
من بلد مملوء ناساً،
لأبي
وجه حجري وله صوت جائع
يتحدث
عن أشياء لم يرها، كالنسل وبابل
أو
يلهج بالاوراد، ويطلب ماءً
شارك
في صد الهجمات عن الانحاء القصوى في
البلد
وتمنى
أن يلحق من فرّ لبيته
* *
*
يعمل
مثل عباد الله
حطاباً
يقتنص الاغصان، ولا يفتأ يمتدح
الاثل
وعلى
عينيه كلال سنين، أمضاها في بلد
مملوء
ناساً
وكما
تنمو الاعشاب .. رأوني ألعب في الباب
وعصفنا
في الارض أكلنا التفاح المجدور
ورأينا
بعض ينابيع الكبريت
جلبنا
أزهاراً شوكية
تشبه
رأس غزال .. بعناها في التجوال
- للغرباء عيون ضائعة -
بتنا في الغابات
تمردنا
في المنعطفات .. وجئنا
- معنا رجل ذو منسأة
ضيعناه بسوق
كاد
يجف على طرق الصحراء
وبنينا
بيتاً ومراحاً سيجناه بأغصان الأثل
هي
ذي أمي تملأ ثوباً فضفاضاً وتدب مع الديكه
وتريني
بعض الحصباء
لم
أحزن إلا أني كنت وحيداً
قصياً
في بعض الاعوام، فلا وجهاً حجرياً تلفيه
أو
يملأ ثوباً
2- حزن في الطريق
ألغيت
حضوري في الزحمة - في الساحات اليقظى
حيث
العابر لا يعرفه الناس
والاضواء
تفيض على الطرق الغبراء
وانا
في غمرة أشواقي أقضي،
في ضعة الصوت اللاغب يجتاز الليل
ويناجي
ارجاء الحلم الميت
وانا
لم تعرفني حين تلاقينا سحراً
والقرية
غنت لبهائك .. طاف النور
في داري طاف على المعبر
والاشجار
ونأيت
ولم تعرفني .. يا للمجد
يوجد
في قارعة الدرب بناء فاره
وشجيرات
تنمو وتموت مع الصيف بقربه
يستوقفني
ما أن أذهب ليلاً للمقهى
شباكان
وباب أخضر
وأناس
يمضون بعيداً في اعماق المدن
قيل:
وليّ أعيته (عصا التسيار) فألقاها، وهموم الناس
واستشهد
عن وجد وحنين لله
تصلي
ريح البحر
عليه
كل مساء
وحصى
الارض
لكني
.. داهمت رحيل الناس، وضعت، في أوجههم
في
أنحاء الارض
حيث يبني الضباب طلائع أوكاره،
من هنا انبثق العشق،
حيث المعابر خالية، و السكون يعم الذرى،
و الصنوبر محتفل بالثلوج التي تتهاوى...
و كانت دروب المدينة خالية
تكتسي بهجة الوفر، في صمته يتهاوى...
ما الذي قد أتى بك منجرفا من نخيل العراق،
من البصرة المستريحة في ظلها...
من هدوء صباح المقاهي
من الشاي يعبق بالهيل
من جلسة عند مدخل سوق الأمير مع العصر،
حيث تمر المدينة في زهوها الخجل،
الجالسون وراء زجاج المقاهي
تسافر أعينهم في فضاء الغيوم الملول
و كان رداء المدينة رثاً، و
أبنية السوق آيلة للتداعي،
و أحلامنا تتطاول باحثة عن مدى،
غير ذاك
الجلوس بغير انتظار،
و ما وجهة الروح إلا إلى الغرب،
اسبانيا لم ترفق إليها...
الجزائر... هذي البلاد مضرجة بدماء الشهادة، مسكونة
باليقين، و رافعة رأسها... فلتكن...
انك الآن ملقى على ساحل، في شمال الجزائر،
تلقي بصنارتين إلى الماء، منتظرا سمكة...!!
هكذا تنتهي المعركة.
....
كان ذلك كوناً ضباباً،
و ما ألق الروح غير وميض
طفا و اختفى فجأة...
في غضون السنين البعيدة
كانت مرامي الطفولة فياضة بالظلال و بالنخل... فياضة
بالندى و النهارات... وضاءة
يستريح على جرفها حلم قادم،
من سرى الليل بين النعاس و بين التثاؤب،
أمي بفوطتها تملأ الدار حبا
و بتنورها تملأ الدار خبزا،
و من سدرة الدار تهمي العصافير...
و النبق و الورق المتساقط ،إذ
يتجمع في الصفرة الساذجة،
و في الدار آثار ساقية، ردمت...
و ترامى إلى أذني صوت أمي:"تعال... لقد اقبل الليل..." ...
كان العشاء طيوراً من الهور
و التمن العنبر المتربع فوق الخوان
عابقاً بالبهارات... مكتسياً بالزبيب و باللوز...
و البال خال...
و فوضى من الضحك الثر،
فالمس ليس كيومك مكتسيا
بالمشيب بعد احتراب المنافي
و بعد رحيل الأحبة... كانت أزقتنا الضيقة
وطنا حالما بالمسرات و العبث الحلو...
كان شمال محلتنا غابة
يتوحد فيه اليمام مع السعف و الرطب الحلو...
تسرح فيها السواقي و تمرح...
ننهل منها البراءة و الخوف،
حيث الطناطل تسكنها و السعالي،
في ليالي الزمان الذي ارتحلا
حاملا كل أشيائه و أهاليه...
ها قد نسيت الكثيرين، و احتمل الأمس أشياءه و ارتحل...
كان بعض الأحبة قد لفهم و طواهم ظلام القبور،
و بعض المقيمين في الذاكرة
و فدوا الآن، هأنا ذا أفرالى المائدة
بالكؤوس، و ازرعها بالشموع و
استحضر العائدين
من الوهم، حيث تصير الحقيقة، بين التلافيف،
قابعة بانتظار انبعاثاتها...
فأنا الآن وحدي على ساحل في شمال الجزائر...
ألقي بصنارتين إلى البحر... منتظراً سمكة..!
هكذا تنتهي المعركة.
...
لم أر البصرة المستريحة في القلب منذ ثلاثين عاما...
و حين أقمت بها مرة
سنة
كنت أشبه بالغجري العجول،
و غادرتها نحو هذي المنافي البعيدة...
عانقتها مرة، و انفلت، و أحرقت كل السفن...
كانت انتبهت من مدى حلم
فاستفاقت و قد فقدت جنحها
حيث "ساعة سورين" ألقت بها عاصفة
جرفت في المهبات (سوق الأمير) و (نزل
الخليج) و (مقهى
حبش)
و انتهى كل ذاك المكان،
و لم يزهر، اليوم، (جسر الهنود)
بغاباته السمر...
كانت مقاصير تلك المقاهي مصوحة
حيث تفنى المدينة مرحلة ...مرحلة
لم يعد سوقها غير مرأى خرائب مخسوفة الأسقف...
انقض "باب الزبير" على بعضه و هوت كل أبنية السوق...
شقت شوارعها داخل الأبنية
فتشوهت الألفة الحانية...
كل ذاك السكون قد انهار، يدفن في قلب أطماره
نجمة نائية.
...
قبل ذلك زالت مغاني الطفولة
و انفض سمارنا فوق جسر المحلة..
و "السيف" لم يأت مجلس مقهاه، يضحك"صبري أفندي" ..
أبي سوف يأتي (بيشماغه) و (عقاله)
و (عبود)* يجلس بالقرب مني، و نحن نكركر بالضحك الثر
*"الزاير" استغرق الآن، في النوم:"هاتف* أيقظه إنا عطاش"
و يسعى إليه بهيبته و وسامته، قد علا رأسه الشيب...
نسهر في ليلة العيد حتى الصباح... و لا شيء غير الجذل...
و ها هو يمضي... و تعصف بالماثلين المهبات
ها أنا ذا ... في شمال الجزائر
ألقي بصنارتين إلى الماء منتظرا سمكة...
هكذا تنتهي المعركة!
...
آه... كم كان ذاك العراق رحيباً
من أقاصيه... من عمق اهواره...
من أعالي الجبال إلى سبخة الفاو...
بغداد كانت صدى آتياً، من مئات السنين،
و دجلة تخفق في صدرها، و الرصافة و الكرخ همس و نجوى،
على الضفتين...و إسراءة، عبر كل القرون التي غبرت...
جاءها السندباد من الموج و اللجج المظلمة،
حاملا ألمه،
عابقا بالافاويه و الند و العنبر،
صارخاً، بالدجى المتلاطم بالخوف إذ يزدري حلمه...
تلك بغداد في الق الكبرياء، تناديه من زخم الملحمة...
تلك بغداد تحنو على سرها،
و تنوء بأعبائها، في خضم الجلال،
و في ضنك الغدر...
ها قد تنصل عنك الأخلاء و الأدعياء و لم تركعي...
عبثت بمصيرك أيدي الرعونة طيشا و لم تنتهي...
أنت شامخة أبدا،
هكذا يصلب العنفوان...
عد إليها... تمرغ على تربها
أنت في قلبها نبضة... أنت في يدها صولجان
سيمر الرشيد أمام انبهارك في موكب
حفه المجد و احتملته اليدان
راكبا صافنات العتاق،
لابسا من لواء العلا طيلسان
شامخا بالعراق...
غير أنك قد لوحت بك كل المرامي...
و ها... أنت ملقى على ساحل في شمالي أفريقيا،
حيث تلقي بصنارتين إلى البحر،منتظراً سمكة
هكذا تنتهي المعركة!
...
في المرامي البعيدة حيث تقاذفك إليه،
و اعتصرتك الهموم
ورفت على أفقك الجهم أجنحة شاردة
و دمشق باشتهائها المكفهرة تدعوك للتيه...
كانت هناك أوائل خطوك، حيث الشتاء
ينث بأمطاره الباردة...
كان أول مطعم من الغربة الصمت... لا احد يعرفك،
مدخل الفندق المتراجع نحو الزقاق، من الشارع العام،
يسلم وجهك للغرفة الباردة...
و تداهمك البصرة المستريحة في القلب،
كنت اشتريت لباساً جديداً،
و (محمود)سوف يعود من اللاذقية كيما تفران غربا...
كنت تقضي النهارات بين المقاهي،
و من قاسيون تلوح الجبال، التي سوف تستقبل الهاربين،
من الشرق نحو المغارب...تسلمك القاهرة،
لمتاهاتها... و يلوح المقطم في افقها،
حيث يجتمع الصوف بالمخمل الناعم
و المساجد بالهرم القائم
من عصور ذوى قلبها،
و استراحت على القارب العائم،
حيث يسترسل النيل في صمته
من عصور طوال...
...
يتقاذفك التيه، نحو المغارب...تلقي حقائبك المتعبة
في الجزائر...هذي البلاد مكللة بالجبال،
و مغسولة بالمياه،يعانقها أبحر، يلقي بأمواجه المتعبة
على حلم شطآنها...يتقاذفك التيه،
تقطع أوربة التثاءب من فرجها، رائحاً غادياً، بين بلدانها،
من صقيع الشمال إلى حلم المغرب...
من شرقها الاشتراكي، حتى جنوب نوادي القمار...
هنالك يجرفك الهول
تلقى من العرب المستقرة شتى الصنوف
من المترفين... من المتخمين... من اللاجئين إلى النائمين على
الأرصفة...
و تلقى هناك العراقي، يبحث عن باب عشتار بين المنافي...
عن العائدين من الموت و المستريحين فوق الرقيم
و تبحث في وجه اسبانيا، عن ملامح قد خبئت،
في الشعور و في سمرة الوجع و الأغنية...
في النخيل النحيلة تحدو بوجهك في مرسيه
و عن الهمبرا
حيث غرناطة الغربة احتضنته مصابيحها... الكاشفة،
و هو يحضن ماضيه و تهاويله...
و هناك التجأت إلى بونسيون
بتلك الأزقة ، تطهو طعامك... تنتظر الخاتمة.
...
عند مرأى الزقاق الجنوبي سبتة غائمة..
...ليل تطوان محتفل بالصداع، و خاتمة الرحلة الواجمة...
و على فجر أسوار فاس، يصلي المريني و العائدون من الأمس
بجلابيبهم...
تلك وجدة تنتظر العابرين، و وهران تدني خطاك إلى الشرق
حيث السواحل ترقب صنارتيك، لتنتظر السمكة...
هكذا تنتهي المعركة
...
حيث تنأى السنون البعيدة حاملة كل أعبائها و مسراتها...
حيث تجلس في الليل منطفئا،
ينقل التلفزيون أخبار ذاك الدمار...
و تشهد اهلك يستصرخونك...
لكنك الآن أدنى، إلى الجثة الهامدة...
قد علتك الغضون، و داهمك الشيب و احتملتك المحطات نحو الأقاصي،
و جفت على مقلتيك الدموع...
و لم يبق من ذلك العالم المتألق غير الرؤى الجامدة
و تراميت من شاهق، نحو هذي الشواطئ، تجلس في رفقة البحر...
تلقي بصنارتين إلى الماء منتظرا سمكة...
هكذا تنتهي المعركة !!.
الجزائر 30/1/1993.
* سوق الأمير: سوق في العشار على الضفة الشمالية لنهر العشار
بالبصرة، يتفرع من يمين جسر الهنود عند الجسر للدخول إلى السوق و على تفرع اليسار
كانت تقع ساعة"سورين" و بهذا التفرع كان فندق الخليج و في نهايته مقهى حبش، و قد هدم كل
ذلك لتوسيع الشارع.
* النبق: ثمر السدر.
* التمن: هو الأرز كما يسمى في العراق.
* الطناطل و السعالى: كائنات خرافية في الميثولوجيا العراقية.
* باب الزبير و السيف: من أحياء
منطقة البصرة القديمة.
*صبري أفندي" هو أمين صندوق البصرة أيام العثمانيين، كان من
رواد مقهى(هاتف): اسمه يرد في أغنية
كنا نماحك صبري أفندي بان نغني أمامه" "صديقة الملاية" : "الأفندي...الأفندي...عيني
الأفندي"..أغنية لـ
أحياناً، و ينزعج و ينفعل أحيانا أخرى.
*" عبود" صديقي توفى شاباً
*" الزاير" عامل في مقهى هاتف
* مقهى " هاتف" –
سميت على اسم صاحبها- تقع في محلة السيف- البصرة القديمة- تحول بعد ذلك اسمها
إلى" الشناشيل" وكنا نلتقي فيها يومياً مع مجموعة من الأصدقاء
منهم" إسماعيل فهد إسماعيل وجميل الشبيبي وجعفر موسى عزيز وعبد الكريم كاصد
وجليل المياح وجاسم العايف ومحمد جاسم عيسى واسعد احمد الباقر وجعفر موسى عزيز -
أبو هشام- وعبد العزيز عسير وحسين عبد اللطيف- احيانا- و شاكر العاشور ومصطفى عبد
الله .. وغيرهم.
* محمود الكعبي:رفيق سفري عند خروجنا من العراق نهاية 1976.
* المقطم: الجبل الوحيد قرب القاهرة، و هو داخل فيها الآن و هو مكان
السياحة الصغرى للمتصوفة و في سفحه القرافة التي دفن فيها ابن الفارض و كثير من
الأولياء الصالحين و فيه أيضا نواد للقمار و القصف و الملاهي.