تكست: السنة الثانية




تكسـت – السنة الثانيـة – العـدد الواحد و العشرون – مايو/آيار 2014

لتحميــــل العدد بشكل بي دي اف

الجمعة، 16 مايو 2014

تكست - العدد الواحد و العشرون - ملف خاص: الشاعر محمد طالب محمد - من الموت الى الموت / اعداد خالد السلطان




 من الموت الى الموت
ملف الشّاعر : محمد طالب محمد

 ملف يساهم فيه/خالد السلطان/جاسم العايف/ جميل الشبيبي/ يعرب السعيدي/محمد صالح عبد الرضا/عبد العزيز عسير/مجيد الموسوي/ مختارات من قصائده

جاسم العايف: لم يكن اهتمام أدو نيس بمحمد طالب محمد جزافاً
حاوره : خالد السلطان
*اللافت للنظر إن العديد من المعنيين بالممارسة الإبداعية (الشعرية) شعراء ونقاداً ومتلقين، لايجهلون المنجز الشعري للمرحوم محمد طالب محمد حسب، إنما يجهلون اسمه وهويته العراقية. ولما كنت، أستاذ جاسم، أحد أصدقائه الخلص،دعني أسألك بدءاً، مَن هو محمد طالب محمد..؟
- هذا السؤال مثير للألم حقاً... محمد طالب محمد، ولد في البصرة وعاش فيها وبعد إكمال دراسته الإعدادية انتقل إلى بغداد، وأنهى الدراسة في كلية الآداب، وكان مكتفياً بعدد قليل من الأصدقاء، ومبتعداً عن المهرجانات وكل مايمتّ بصلة لثقافة النظام أو السلطة. كان منشغلاً بمشروعه الشعري وبالاستمتاع ببعض اللذائذ اليومية، التي توفرها العلاقات الحميمة لأصدقاء لا علاقة لأغلبهم بالأدب. كان يستمتع كثيرا بالحياة اليومية في مقهى (هاتف) في البصرة القديمة, والتي تحولت إلى مقهى الشناشيل، ثم أصبحت مخزناً للمواد الإنشائية آلآن ومعمل للنجارة في مرحلة الحصار , وفي بعض النوادي لممارسة بهجة الحياة. ولديه علاقات وثيقة بأصدقاء همهم الشعر والأدب والفن، زامله بعضهم في مرحلة الدراسة والبعض الآخر تعرّف عليه بعد تعيينه في سلك التعليم. أصدقاؤه في البصرة صفوة من جيل الستينيات، منهم القاص والروائي إسماعيل فهد إسماعيل، قبل استقراره في الكويت، والناقد جميل الشبيبي والشاعر عبد الكريم كاصد والشاعر شاكر العاشور، وصديقنا يعرب السعيدي وله علاقة وطيدة، بحكم الاهتمام والجيرة، بالكاتب إحسان وفيق السامرائي، والشاعر شاكر العاشور والشاعر محمد صالح عبد الرضا، ويوسف السالم، ومصطفى عبد الله وعدد من الأصدقاء من الشعراء والأدباء ، وبالذات ممن يتردد على المقهى وتعرّف عليه أيضا الشاعر حسين عبد اللطيف. نشر محمد طالب محمد بعض القصائد العمودية في مجلة الأقلام، أبان صدورها، عندما كان طالبا في كلية الآداب ، ونشر أيضاً في مجلة (الكلمة). وأنهى الدراسة بتفوق بسبب من تربيته الأدبية واللغوية، حيث إن والده رحمه الله من المتابعين، بدأب وحماس للأدب العربي والشعر بالذات، ولديه مكتبة تحتوي على مصادر مهمة للشعر العربي الجاهلي والأموي والعباسي والأندلسي. وشعراء النهضة العراقيين، كالرصافي والزهاوي ، والعرب أيضاً, مع اهتمام خاص، جداً، بالجواهري. كان المرحوم الحاج طالب أصاب (محمد) بعدوى قراءة الشعر منذ الصبا والاهتمام بالجرس اللغوي والبديع والزخرفة والصرف والنحو والبلاغة، كان الحاج طالب فخوراً بولده- الوحيد- محمد وبمستقبله الشعري. ومن طرائفه أنه قال لي يوماً وكان يأتي ليجلس في ذات المقهى التي نجلس فيها  (لقد خيّب محمد ظني حينما توجه إلى كتابة الشعر الحديث)، فقلت له مازحا: حسناً فعل ذلك لأنه لم يخيب ظننا.
* الأسباب التي أدت به إلى الهجرة..؟
- بموجب قانون التعريب في الجزائر آنذاك، تمت الاستعانة بمدرسي اللغة العربية وخصوصاً من العراق فكانت فرصة للسفر وقد ذهب محمد طالب محمد للتدريس وهناك تزوج من سيدة جزائرية ،وحينما عاد وفوجئ بالواقع الذي كان في بداية السبعينيات وهو بداية الانحدار القيمي والاجتماعي وشيوع أمراض الانتهازية والنفعية وارتقاء مَن لا يستحق في الإدارات المدرسية ، ورأى أيضاً محاولات جادة سياسية-حزبية نفعية لتجاهل أحداث تاريخية مفجعة في الحياة الاجتماعية- العراقية والعمل على تبييض صفحات سوداء مريبة جداً وتأهيل قوى دموية وشخصيات لقتلة من محترفي الجريمة العامة والخاصة من أجل أن تكتسب صفة (الديمقراطية والثورية) فشعرنا - جميعاً- بالاشمئزاز إلا انه كان أكثرنا قرفاً، وتزامن ذلك مع مرض غريب أصاب السيدة  زوجته أتعبها كثيرا. فقد أصيبت بـ(حساسية) محرقة لجسدها وجيوبها الأنفية لم تستطع هذه المرأة  القادمة من الجزائر وبحره المتوسط ، تحمل جو العراق حتى الاجتماعي وقد كان عليها انتظار العائد من الوظيفة، وهي المتخصصة في الاعلام المرئي، أو من متع الليل البريئة ... تقول لي:- هناك ما يشبه الجهل بشخصية محمد طالب، لقد أرسل ادونيس رسالة بخطه إلى محمد طالب، رسالة مملوءة بالإعجاب والحماس لكن محمد كان حيياً ولم يرغب أن يطلع الآخرون على ما كتبه ادونيس له، أذكر نهايتها: (يا محمد.. سلاماً أيها الشاعر حقاً).
* هل يمكن أن نعدّ محمد طالب شاعراً شيوعياً، أم مثقفاً ماركسياً تجاوز بشعريته حدود الأيديولوجيات..؟
- دعني أقول لك بصراحة إذا كانت الشيوعية تعني الجلوس في غرفة مغلقة مع الجماعة الحزبية وكتابة التقارير الحزبية الشهرية ، ودفع بدل الاشتراك المقرر فمن المؤكد إن محمد طالب ونحن جميعا لا نمت للشيوعية بشئ ولا نعرف "الحزب الشيوعي العراقي" ولا يعرفنا ، إما إذا كان العكس أي الانفتاح على الناس  والبحث عن العدالة الاجتماعية- الإنسانية، والسعي بقوة وفعالية من اجل تحققها وترسيخ قيم الحرية الإنسانية المدعمة بحقوق الإنسان والحياة في مجتمع متمدن وحرية المرأة وحقها في الاختيار والمساواة الكاملة لها مع الرجل بعيداً عن طواطم التابوات, و السعي لغرض تحويل البشر إلى كائنات فعالة لتغيير شروط الحياة..الخ فنحن منها وهي منا ...كان محمد نشطاً جداً في اتحاد الطلبة العام ومتحمساً ومندفعاً ، ونجا من الاعتقال في الإعصار الدموي البعثي في 8 شباط عام 1963، وظل محمد في جامعة بغداد يواصل دراسته إلا انه حينما عاد إلى البصرة في الشهر السادس القي القبض عليه واعتقل في (مقر الحرس القومي) الذي كان في نادي الاتحاد الرياضي مقابل ساحة(أم البروم) الذي  حوله الأوغاد البعثيين  مقراً لهم  تفوح منه روائح الموت وينبعث من ساحاته وقاعاته الرياضية انين وصراخ الضحايا من النساء بالذات . اعتقل"محمد" هناك وحصل له ما حصل لنا وخرج مدبوغ الجلد وموشوم القلب ومجروح الروح . في الشعر لم يكتب محمد طالب محمد للمناسبات، لقد احتفى بالإنسان وعذاباته اليومية والتاريخية. لقد كان مزدهيا بالإنسان وملذاته الإنسانية البسيطة- العميقة التي لا يستطيع الحصول عليها بيسر، لأن  سلطات الأنظمة الاستبدادية الشرقية الوحشية لا تدع مجالاً وفسحة لممارسة الحياة الإنسانية المدنية المتحضرة. محمد طالب محمد عراقي قدري في الحياة، ذهب إلى الجزائر واستقر هناك بعد أن أرسل زوجته إلى الجزائر على ألا تعود ثم لحق بها وقال لي-: لن أعود . دعني أوضح شيئا أساسياً لقد كانت الظروف تسير بنا تجاه اليسار العراقي والحزب الشيوعي بالذات ونحن  في مستهل مغادرتنا مرحلة الصبا ،ولسنا نادمين قطعاً على ذلك، لقد بُحت حناجرنا من كثرة الصراخ في المسيرات وتهرأت إقدامنا ونحن حفاة من الركض خلف اللافتات التي أدمنت تلميع صور العسكر بعد ثورة 14 تموز 1958 ومع كل ما واجهناه من عذابات فأننا لن نتراجع عن ذلك الاتجاه  الذي عُرفنا به ولكننا نحاول أن نوسع من أفقنا بعد أن انتهى الزمن الذي كنا نعتقد فيه بان التاريخ يسير على وفق قناعاتنا فللتاريخ مساراته المتعرجة ودمويته وللواقع مخاتلاته الكثيرة واللامتوقعة،  وبات علينا ، لزاماً أن نخفف من غلوائنا.
*بداهة ثمة فارق أكيد بين الشعراء، وهم قلة، وبين من يكتبون الشعر، وهم كثر. هل تؤشر وبعجالة الخاصية الإبداعية لمحمد طالب محمد شاعراً..؟
- هذا سؤال اتفق معك عزيزي على جزئه الأكبر، مَنْ يكتبون شعراً كثار لكن الشعراء قليلون جداً وأتذكر إن الشاعر البريكان كما يذكر الصديق الشاعر عبد الكريم كاصد يرفض أن يُكتب أي توصيف مع كلمة شاعر، لأن أي توصيف لا يسمو إلى صفة (شاعر) .  محمد كان يتعامل مع الشعر على انه الحرية حينما يكون الخوف والإرهاب والفقر واللاعدالة الاجتماعية هي القاعدة، إن ميزة محمد طالب محمد الشعرية هي احتفاؤه الكبير باللغة العربية واستخدامه للغة وكثافتها، انه وبسبب من تربيته الكلاسيكية، اهتم بالمفردة اللغوية وتستطيع أن ترى في شعره وقفاته وصوره، صوره الباهرة في مخاطبته للبحر والعشب والإنسان وللماء وللأسرار، واستخدامه الأحلام في القصيدة ثم هذه النثرية والسردية المصفاة. هذه علامات مهمة شخّصها أدونيس في بداية السبعينيات واحتفى بها، لم يكن اهتمام أدونيس بشعر محمد طالب محمد جزافاً، احتفى به دونما معرفة سابقة، احتفى بنصّه اولاً ونشر له في مجلة (مواقف)، وطالبه بمعلوماتٍ تعريفية، وهذه لم تكن سهلة في السبعينيات على الأقل، لقد احتفى به عبر قصائده التي أرسلها له في البريد وبواسطتي.. احتفى بنصوصه أولاً.
* هل تعرّف القراء بقصيدة محمد طالب الأخيرة، أقصد موقفه الإنساني والتراجيدي الذي أدّى إلى استشهاده...؟
-ـ احتفى هو بالموتى، صديقه عبود الذي غادره ليلاً ثم توفى صباحاً، و  احتفى بصديقه مصطفى عبد الله، ونشر قصيدة رثاء له، وعاد مرة أخرى وأهدى لروح مصطفى عبد الله قصيدة نشرها في مجلة اليوم السابع التي كانت تصدر في باريس وتصل لنا.. وكان موت محمد عراقي التفاصيل. لقد اختزل صديقه الشاعر(فوزي كريم) هذا الموت بمقالة له سمعتها مرات متعددة لأنها كانت تذاع في إذاعات المعارضة العراقية السرية، كان عنوانها (محمد طالب محمد... الهروب من الموت إلى الموت)، ذهب محمد طالب محمد إلى الجزائر واستوطن هناك، وأسس عائلة وأولاداً وفي الهجمة الهمجية التي قادها الفكر السلفي الإرهابي المتوحش القادم من الكهوف الأولى لما قبل الحياة الإنسانية، تم إصدار فتاوى، وما أكثر الفتاوى التي صدرت أو التي ستصدر. فتاوى تمنع التعليم والتدريس، وخاصة الدراسة المختلطة، الفتاوى السلفية التي صدر مايشابهها في العراق, بعد تحريره من نظام القتلة البعثيين و في بداية العام الدراسي عام 2004 ، ما الذي يفعله العراقي (محمد طالب محمد) التنويري عاشق الحياة المدنية والرقي الإنساني، هل ينحني للإرهاب..؟. لم ينحنِ، لقد تفعل وفعّلَ موقف الطلاب وحثهم على الدوام متحديا فتاوي الظلام كما يفعل العراقيون الآن، وأفشل بحرصه وممارسته هذه الفتاوى. في اليوم الأول خاف الناس، لكنه كان أول الذاهبين إلى المدرسة الثانوية المختلطة ، وكسر هذه الفتاوى، وكان محمد طالب محمد واقفا في ذلك اليوم في باب المدرسة كما نُقل إلينا، وحاور الإرهابي السلفي التكفيري، العراقي محمد طالب محمد في الجزائر بالطريقة التي يحاور فيها الإرهاب العراقيون اليوم، فاخترقت رصاصة جمجمة محمد وسال دمه في باب المدرسة، كما يسيل دم العراقيين آلآن، لقد تقطع قلب محمد طالب محمد على البصرة  في حرب تحرير الكويت، فكتب قصائد عنها منها(سفر الخروج ). وأسجّل حقيقة الوفاء والاعتزاز من قبل الشاعر حسين عبد اللطيف لمحمد طالب محمد، فقد كان وفيا جداً، و أقام له جلسة استذكارية تأبينية  صباحية في عام 1996 في اتحاد أدباء البصرة في مقره "الموحوسم آلآن" وكانت علنية ونوّه إن محمد قد غادر العراق لأسباب خاصة، وأقيمت الجلسة وساهم فيها مجموعة من الأدباء والشعراء أصدقاء محمد ,وكانت في حينها جرأة كبيرة, ومنهم الأستاذ عبد العزيز عسير بقصيدة عن محمد طالب وملذاته اليومية، وخاصة في لعب (البليارد)،  وساهم جميل الشبيبي، وقرأ حسين عبد اللطيف مقاطع من قصائد محمد طالب محمد عن البصرة في حرب الخليج الثانية أيام القصف الأمريكي، و تحدث فيها عن بعض أمكنة بصرته القديمة ومنها، أسواق (القطانة) و (العقيل) و (جسر الغربان) ومقهى (هاتف) ورواده، ثم انتقل إلى (الداكير) وتساءل عن مقهى (حبش) و(ساعة سورين)  ان موت محمد على يد الإرهاب وفي الجزائر لهي الشهادة الحقيقية في إن العراقي وإن لن ينجو من الإرهاب والإرهابيين إلا انه قادر على تحديه وتحديهم كما يفعل الان.
* ألا تعتقد بأن طبع منجز الشاعر المرحوم محمد طالب محمد هو بمثابة بعثه من جديد..؟ وبهذا الصدد ما الذي تقترحه، وبخاصة على وزارة الثقافة واتحاد الأدباء في البصرة وبغداد..؟
 -ـ أنت قلت بأن محمد طالب محمد، مجهول وهذا حق، فعلاً مجهول، فقد طبع ديوانه، الأول (التسول في ارتفاع النهار) على نفقته الخاصة عام 1974  بعد عودته من الجزائر، ولم يساهم في المهرجانات الثقافية لأسباب معروفة. استعيد هنا ما قاله أخي وصديقي الشاعر (عبد الكريم كاصد) في مقدمته الرائعة لديوان (الأجنبي الجميل) للراحل ( مصطفى عبد الله) واستطيع أن استبدل اسم (مصطفى عبد الله) بأسماء الراحلين ومنهم (جبار العطية، ومحمد طالب محمد، وفالح الطائي، وذياب كزار-أبو سرحان- وعزيز السماوي ومصطفى عبود- أبو النور- وخليل المعا ضيدي وقاسم محمد حمزة وحميد ناصر الجيلاوي وحميد مجيد مال الله والعزيز مهدي محمد علي .. وآخرين).. قال أخي الشاعر (عبد الكريم كاصد) في مقدمته لديوان الفقيد مصطفى عبد الله-: ((لسنا نحييّ الموتى ولا شاعرنا بالميت وما نحتاجه هو التفكير لا من اجل فائدته هو فقد ذهب وبقي شعره، لكن من اجل فائدتنا نحن الذين شغلتنا الأحداث والاحتفاء بأنفسنا عن تأمل أنفسنا وتذكر ما غاب منا ومما يزيد المهمة صعوبة إن شعرا يحتفي بالناس قد ينصرف عنه الناس، في زحمة مشاغلهم والاكتفاء بما توفر لهم من ثقافة النجوم في سماء ما هي إلا بقعة ضئيلة من سماء أوسع وقد يقترب من هذا مصير شعراء كبار من تاريخنا الشعري، ندر من يتذكرهم بدراسة جادة في السنوات الأخيرة بعد أن صار النسيان هو القاعدة والذاكرة هي الاستثناء)).. هذا ما كتبه صديق  العمر الشاعر (عبد الكريم كاصد)...الذين غابوا يا صديقي من صفوة الانتلجنسيا العراقية في المقابر الجماعية وفي المنافي كثيرون والمصائب والمصاعب التي تواجهنا حاليا أكثر. المؤسسة الثقافية العراقية إن كانت ملكا للدولة العراقية، لا نطالبها بإقامة مهرجان وتماثيل.. لا نريد  في العراق قبوراً جديدة.. فلدينا من القبور ما لا يوجد في أي ارض أخرى.. ما نطلبه هو جمع ماخلفوه  من كتابات متنوعة و طباعتها طباعة لائقة لغرض التعرف على نتاجاتهم والحفاظ على ارثهم الإبداعي - الثقافي ليكون في متناول الأجيال  القادمة، ولتحتفظ  الذاكرة العراقية لهم بمكان متميز بدلا من النسيان الذي سيطبق عليهم وعلى ما تركوه .. هذا مطلبنا وهو مطلب ليس صعباً على بلد يعتبر من أغنى بلدان العالم بثرواته التي بُددت سابقا .. وتُهدر الآن بشكل ربما أكثر سؤاً مما سبق .
في ذكرى محمد طالب محمد:( الشاعر)
كتب جميل الشبيبي
لم يكن محمد طالب محمد إلا شاعراً.. امتلك الشعر كلَّ منافذَ روحه المرهفة، وتغلب على كل نزعة حية في كيانه النابض بالحيوية والشعر الصافي.. وكان إبناً بارّاً للابتكار في كل شيء: في سلوكه مع أصدقائه، في طرائفه الجديدة التي تنتمي إليه دون غيره.. وفي كتابته للشعر. كان نموذجاً خاصاً، محتفياً بالحياة على الرغم من مراراتها ومصاعبها الجمّة.. خصوصاً في تلك الفترة المهلكة - فترة منتصف الستينات-: حيث تعطلت الحياة بعد النكبة السياسية الكبرى التي خلفتها أيام 8 شباط الدامي وراءها...كنا مجاميع مختلفة في الرؤى والأفكار والانتماءات السياسية، منتشرين في بقاع مختلفة على خارطة الوطن الجريح.. نعيش كابوساً اسمه (الضياع) اذ لم تعد الايديولوجيات مقنعة ولم تعد الانتماءات الحزبية مجدية بعد الهجمة الشرسة في ايام شباط 1963.. التي دمّرت كل شيء وخلفت بقايا ذوات تندب وتتعذب.. ذوات تلتجئُ الى أعماقها المرهفة الممزقة لتنشئ صروحاً من خيال في الشعر والقصة والرواية والفن التشكيلي. وكان محمد طالب محمد ناراً مشبوبة بالحيوية والنشاط: يلعب البليارد في مقهى (هاتف) بالبصرة مع مجموعة من الشباب لاعلاقة لها بالأدب والشعر، يوزع طرائفه المبتكرة على رواد المقهى.. يحاور (الزاير) و (سعيد) عاملي المقهى- وحين يجلس معنا، نتحدث عن كل شيء، لكنه يصمت عند الحديث عن الشعر.. لأن الشعر كان محرابه الخاص الذي لايتنازل لأحدٍ عنه...ولد محمد طالب محمد بداية الاربعينات من القرن العشرين.. لأب شغوفٍ باللغة والدين ومجالسة الأدباء ومناقشتهم.. وكان والده صديقاً لنا جميعاً- يحضر جلساتنا ويستمع لأفكارنا ونتاجاتنا.. يشجع ويصحح.. وكان محمد ابنه الوحيد الذي يود ان لايفارقه أبداً.. وكان على قناعة تامة بشاعرية ابنه على وفق المواصفات التي تنطبق على الشاعر.في مثل هذا الجو نشأ الشاعرـ متعلقاً بدرس النحو وبديوان الشعر العربي، يغترف من جمالياته فتشرق روحه بذلك الصفاء وبتلك الحياة المتطلعة نحو آفاق رحبة لاحدّ لها...هاجر الشاعر الى الجزائر بداية السبعينات، بعد ان أصابه اليأس من انتظار تغيير مجدٍ وأصيل في الحياة العراقية... واشتغل هناك مدرسا، وتزوج من إمرأة جزائرية. وقد جرّب العودة الى وطنه معها، فرحا وهو يعرّفها بأصدقائه وعوائلهم، مزمعا البقاء في وطنه.. غير أن فراسته وتجربته المريرة مع قوى الشر، واستقرائه للاوضاع القادمة في وطنه وهي تدشن عهداً جديداً للارهاب، أجبرته على العودة منكسراً الى الجزائر.. وقد تحقق حدسه وفراسته بصعود الطاغية صدام حسين الى السلطة نهاية السبعينات وماحدث للعراق بعد ذلك من ويلات وحروب ودمار..كان الشاعر مشغولاً بتأثيث خطابه الشعري بالجديد المبتكر المؤهل لأن يعيش في فضاء العدالة والأمان، لكن الأيادي البغيضة التي هرب من كوابيسها في العراق..كانت تترصد خطواته في الغربة أيضاً.. ففي منتصف التسعينيات اغتالته الايادي السلفية الغادرة، التي تقتل اليوم آلاف الأبرياء في عراقنا.. وكان الشاعر في مركز العلم: مدرسته..!!
*    *    *
نشر الشاعر محمد طالب محمد ديوانه الوحيد في العراق (التسولُ في ارتفاع النهار) عام 1974 ، بعد عودته القصيرة الى العراق.. ويضم هذا الديوان اثنتي عشرة قصيدة، تمتاز بأبنية مكثفة ومركزة، لكنها مع هذا القدر من التكثيف في الجملة الشعرية فإنها تميل الى الطول في شكلها، حيث يبلغ معدل صفحات القصيدة الواحدة بين 6-15 صفحة من قطع الديوان..وقصائد الشاعر هذه، تنحو منحىً مفارقاً في أبنيتها ومجازاتها المختلفة للنماذج الشعرية التي أفرزتها تجربة السبعينيات الشعرية في العراق... حيث كان الميل نحو كتابة القصيدة (اليومية) التي تستقي موضوعاتها من دافع الحياة وتؤسس مجازاتها على هذا الواقع.. وتتضح هذه المفارقة، بذلك النزوع الأصيل لدى الشاعر نحو عالم الذات المتعالق مع إشكالات الوجود الكبرى التي تجد لها مناخاً ملائماً في ازدواجية اشكال العلاقات البائدة والمتحجرة التي تكتم الانفاس وذلك النزوع نحو عوالم طليقة ومشخصة برموز وشواخص دالة عليها تمجد الحركة والنماء.. انها رحلة امتحان عسيرة في حياة رتيبة تحرسها الوساوس والليالي الموغلة بالسواد والكلاب الناهشة (الأكلب كما يسميها الشاعر) والوحول الكثيفة التي تكبل الذات وتذيقها مرارات من الحزن والموت البطيء...
وعادَ الليلُ والأكلبُ تغتال
طريقي، تفتحُ الغربة في قلبي ؛
فتذروني صلاةً، من لَدنْ تشملني
الرحمة حتى مطلع الفجرِ... وإني
مُثخنٌ بالوحلِ... مسفوحٌ أمامَ
القتلِ.. يستحلفني الناسُ بأنّي
فاسقٌ........
                    (قصيدة المعضلة)
إن الشاعر وهو يغادر وطنه، بعد ان أوشك على الوقوع في مستنقع الشر والقسوة والإذلال، فيلتجئَ الى الجزائر، كي يجدد حياته ويعتق روحه، لكنه لايجد سوى أجواءٍ مماثلةٍ تحيل حياته الى عذابٍ مستديم ووحدة قاسية:
وكنتُ أقضّي
الليالي منكفئاً في سريري
نورساً ميّتاً
فوق مستنقع الملح، واهنةً كتفاي
لاأطيقُ حراكاً..
نداءات شعرية عميقة تنحتُ في فراغ الغربة وكوابيسها، أفقاً أخضر للقادم الجديد.. أنشده قصائده الطوال وحاوره حواراً حميمياً متصل الفقرات وكانه روحه الهائمة التي يبحث لها عن ملاذ آمنٍ يحميها من هذه القسوة وتحجر الكائنات من حوله، لقد انشأ الشاعر عالماً رحباً من المجاز، تميز باللغة الخاصة التي تتحول المفردة فيها من معناها الاستعمالي الى معنى جديد، يرتبط بشكل وثيق بسياقات الجملة الشعرية التي ينشؤها... ومن خلال لغته الخاصة هذه، أضفى على موجوداته أفقاً من الجمال والشفافية والانفتاح على الدلالات والتأويلات...وأصبحت القصيدة لديه صورة مشخصة وحيّة يتناوب في فضائها المشهدي والسردي، بعلاقة وثيقة، ويتناوب على إنطاقها ساردون يظهرون ويختفون بصيغ الضمائر المعروفة: الغائب، المخاطب، والمتكلم... وفي بعض الأحيان تتناوب في إنشاء المشهد الشعري أو السردي أصواتٌ يتداخل فيها الذاتي والجمعي.
إن إدامة الصوغ المشهدي والسردي في كثير من قصائد الديوان، يأتي هنا ليحقق ذلك التواشج بين التجربة الذاتية وبين فضاء الموضوع الرحيب.. فالسارد العليم يضفي على التجربة عموميتها، في حين يعمق السارد الذاتي تلك التجربة ويحيلها الى استغاثات انسانية شغوفة بالحياة والجمال والابتكار.. ويتضح ذلك في قصيدته (مقتطفات من ميناء منسي) وكذلك في قصائد اخرى كثيرة...تبدأ هذه القصيدة من كناية مألوفة عن شخصية البدوي، ولكنها تتعمق بالمجازات والصور الشعرية الجديدة المبثوثة في ثنايا القصيدة... كما يتضح ظهور الضمائر واختفاؤها في هذه القصيدة التي تصور الانسان- العربي بشكل خاص- وهو يخوض غمار هذه الحياةالمعقدة:
جاء رضيع النياق التائهة
في الفلوات الرملية، واستوطن الزقاق
المتعرجَ... صبغَ الأبواب
بالألوان الباهتة... اجتذبَ الصرخة،
في الليل وغناها...
وفي مقطع آخر يلجأ الى الخطاب المباشر-:
أنتَ البدويُّ
الهاربُ من صحرائك
لو لُعنِتْ كلُّ بقاع الدنيا
تبقى صحراؤك طاهرة
بعد ذلك تتشكل التجربة بذلك المخاض الاليم المشخص بضمير الأنا وهو ينشدُ من أعماق الذات تكريساً لهذه التجربة-:
لن أقفَ الليلةَ خلفَ النافذةِ
منتظراً نور الفجر
الآتي بين صياح الديكة
سيفاجئني البرد
شتاءً مخنوقاً
بالوحدةِ والصحبة والأمطار
وسأبحثُ عنك طويلاً..
إن التناوب في استخدام الضمائر في بناء القصيدة، يشكل أساساً مهماًَ في بنية القصيدة لدى الشاعر محمد طالب محمد.. فالضمائر تتداخل في صياغات مبتكرة وصور غير مألوفة، ويتضح ذلك في استعمالات الشاعر للمجاز في قصائده، حيث ترتدي الاستعارة والتشبيه والكناية وأنواع المجازات الأخرى اشكالاً جديدة... ويبدو ذلك جلياً بدءاً من عنوان الديوان (التسول في ارتفاع النهار) فيصبح الشعر تسولاً لابمعناه الحرفي، ولكن بمعناه المجازي الذي يحيل التسول الى تساؤل عن معنى الوجود والحياة في الظروف القاهرة والمستبدة.. ويعمد الشاعر الى ان يكون هذا (التسوّل/التساؤل) في ارتفاع النهار وأمام الانظار التي لاترى في الحياة سوى استهلاك ومتع زائلة.. في حين يجدُّ الشاعر في أسئلته التي تتضمن أجوبة في أفق مفارق-:
أعشقُ بردَ السَّحر
الآتي، في الأفق الشرقي
أسبح في رعشته
وأهادن ظمئي
ارتعشُ
عشباً في رابية
مأخوذاً بالعصيان.
                 (من قصيدة السياحة)
وإذا احتكمنا الى مجازاته الشعرية الجديدة وصوره المبتكرة التي تضمها قصائد الديوان فإننا سنغرق في عالم شعري متدفق يفيض بالسحر والجمال من خلال ذلك التواشج بين المفردات المتباعدة في المعنى المتآلفة في الصورة الشعرية.. فالصفة عنده لاتتوافق مع الموصوف او انها تحاول ان تتمرد عليه لتضفي سياقاً جديداً يحمل الطرافة والابتكار.. من أمثلة ذلك: (الأمكنة الجاهضة)،(تنبحني الأكلبُ في ليلٍ وضيع).إنّ تآلف هذه المفردات في سياقات شعرية، تشكل لدى الشاعر إثراءً وتمرداً في آن واحد، تفتح للمتلقي كوىً وآفاقاً واسعة تبيح له تأويلاً دون حدود...
أنا أرديةٌ مسكينةٌ
تنهرني العقبان محومةً حولي
في هذا القهر، فلن أقرأ
...إني في القهر
أقعي كالبركة تحت الغيم
منتظراً أن تصل الرحمة...
                     (قصيدة المعضلة)
وانا أكبحُ النومَ ملتحماً بالنجوم
في الهزيع الضبابيَ
يوهنني البردُ
وتماطلني غابة الحزن
                    (من قصيدة الفتوح)
وفي قصيدته الطويلة (التسول في ارتفاع النهار) تتوالى الصور بمفرداتها الغريبة غير المتألفة لتنسج مجازات غير مألوفة تعمل على تخطي السائد من الصور الشعرية، لتبقى متفردة وعصيّة على غيره من الشعراء.. وهي تكشف شاعرية مسكونة بالمجاز الجميل والشعر الصافي المتألق-:
( فالنوافذ أجنحةٌ
والحوائطُ والشجرُ المتطاول رفرفة
وزعيق... يجيء)
أو-:
( هذا جناحي “أريد”
نوارس هيمى
سواحلَ هائجة ومصباتْ
تهوي المياه عليها... تمزقها
وأريد مضارب للموج صخريةً
وزوارق مربوطةً
سمكاً
وسجائر... داراً ونافذةً)
لقد كان الشاعر محمد طالب محمد، جملة شعرية لاتنتهي، تنهمرُ فيها المجازات وتتداعى عبرها الصور لتؤلف سمفونية ضاجّة بالألم والمعاناة والرغبات المستحيلة.
---------------------------------------
ما يزال العسل في الجرار
يعرب السعيدي
هل حاول الشاعر الغريب القتيل محمد طالب محمد تخليق حكاية موته أم أن إحساساً سرياً مروعاً كان ينتابه بنهايته وانعكس في شعره..؟، وهل كان واقعاً تحت سطوة رؤية داخلية لمعنى الزمن في أفعال الأمر التي تهوي كالمطارق لرسم شكل الموت الآتي:
(طاردوه.... أقتلوه غريباً
أودعوا قبره غابة
وموانئ نائية)
وهل كانت هذه الافعال الصارمة (طارد، اقتل، اودع) تعبر عن زمن التوتر الذي كان الشاعر يحيا فيه يائساً ضائعاً او مضيعاً، وهل يمكن الاستفادة من المعاني الدراماتيكية لتلك الأفعال لاستجلاء الحالة النفسية لغريب نأى عن وطنه في الموانئ البعيدة، لكن اسلوبية اللغة في شعره تعنى بتنظيم السرد كاستجابة عقلية واعية (مطاردةــ قتل ــ قبر) في معان يتناسل بعضها عن بعض لرسم المشهد الشعري كنتاج واع لموت الشاعر في غربة نائية.سنحاول متابعة هذه الافعال الثلاثة في مجموعته الشعرية الأولى (التسول في ارتفاع النهار):
(الليل طريد
مثلي
بين الآناء المجهولة)
وتلك مقارنة بين متشابهين (هو والليل) كلاهما طريد في المجهول في مشهد عياني مغلق بلا حركة فعل او فعل حركة، بل صورة بصرية ينتجها تحالف المفردات الجامدة مع بعضها من أجل إشاعة عنصر الثبات في المشهد الشعري الذي يبدو كلثام ثقيل يختفي تحته كل (المسكوت عنه) في معنى (الليل الطريد) القائم على ثيمة لامرئية ولكنها شاخصة في الليل وفي الشاعر معاً، كما ان الالتجاء للتشبيه يجيء هنا للمبالغة في انتظار المصير الذي لاتكتشفه محسوسات الوجود الانساني كونه ضائعاً في سديم الآناء المجهولة.وكأن الموت قد تأخر عنه او نسيه وهو الذي يبحث في الموت عن توازن روحه الشفيفة، فيصرخ به:
(افتح بابك للغريب،
يا ذا النفس الخربة..
افتح بابك لي.)
...........
(يا ذا النفس الخربة
إن لم ترني عيناك
الناسيتان فإنك اعمى
آه...
يا ذا النفس الخربة.)
لقد كانت (ذات) الشاعر تتمحور حول الموت وكان الموت يتمحور فيها، أي انهما كانا متجاورين تماماً، والشاعر لاينفك يطرق باب الموت كروح مطلقة، ليبحث فيه عن لغز الرؤية الداخلية لمعنى الوجود من خلال الموت، ولعل الفعل الشديد (افتح) ينم عن استغاثة او رغبة في الرحيل، فالشاعر يعدّ عدته ويتهيّأ:
( أنشر كفني
وأطرّزه بالطيور.)
إذن، ثمة وعي حياتي مقابل الموت، فالشاعر لايتخلى عن حقه في الحياة وهو في إطار مغامرة الموت، ففي (نشر الكفن) دلالة استقبال المغامرة، وفي (التطريز بالطيور) دلالة وعي بجمال الحياة، كما ان المفردتين المتقابلتين (الموت/الطيور) تشكلان امتزاجاً بين الحياة والموت،وبين رغبة الشاعر في ارتياد المجهول المخيف بمعادل موضوعي جميل بشكل الطيور المطرزة على الكفن، حتى لكأن الكفن جناح طائر.
ترى/ ما حال هذا الغريب البعيد عن وطنه، هل يحب النهار في منافي الغربة وهل تراه يأنس الأشياء كما يأنسها غيره، وهل أن حقائبه هي نفسها حقائب المسافر..؟:
(هل رأيت الحقائب، كالحة كالنهار
إنها غربة وشتاء.)
ثم ماهي معاني حواراته مع نفسه، وكيف هي حوارات حديثه الداخلي، هل تأخذ معنى الضياع الأليم او الحلم الطاهر؟:
( أنت البدويّ الهارب من صحرائك
لو لعنت كل بقاع الأرض
تبقى صحراؤك طاهرة.)
هو نفسه حديث الغربة وثبات الذاكرة الأولى وصراع النفس في البحث عن الطمأنينة في أحضان الأم واستيقاظ العقل في التواصل مع الجذرالأول في حومة الصراع بين المنفى والوطن:
(وكنت أقضي الليالي
منكفئاً في سريري
نورساً ميتاً.)
إن الغربة تخلق عناصرها الفاعلة (هو والمكان والزمان) في إطارٍ من المعاناة النفسية التي تحيط بالتجربة وتتغلغل فيها فتفضح خباياها على نحو لا يكاد يحسّه سوى الشاعر الغريب في بلاد نائية.
(لكن الليل يجيء
وتغافلني الأشباح
المدروسة كقبور)
ولاتبدو الأشباح الا في وحدة الشاعر بغربته، والوحدة اشتهاءات تخلخل خرائط الحياة، وأصوات تضجّ في الوعي للتعبير عن رؤى الضياع البشري، ولكي تكتمل صورة الغربة لابد أن تاخذ التجربة كامل أبعادها الانسانية لكي تتمظهر فيها شخصية الانسان الواقعي لا الانسان النبي،وهكذا يرسم الشاعر مشهده الشعري ويعبر عن عطشه الصحراوي مرمزاً بالمرأة:
(حين تمرّ النسوة،
مبتلات تحت جرار مخضرّة،
ترشح أنداء.
أعطش وحدي،
ألهث،
ألقي فوق الرمل لساني
جرحاً يدفن في الملح
مفغوراً، ينتظر الفرج.)
هذه صورة ينتجها الوعي وتنظمها سلسلة علاقات ذات حرارات خاصة بين الشاعر ومحيطه الغريب، وهي صورة تقوم على بنية تشكيلية تأخذ شكل اللوحة الفنية من خلال تآلف دلالاتها ومفردات أسلوبها، وتبقى الغربة كدلالة مختبئة في المشهد هي الثيمة القصدية في بنية تكوين المشهد، والزمن هو الذي يشكل علامات الاستدلال عليها، فأين المكان في تكوينات غربته..؟
(تائه في المقاهي
الشوارع موغلة
في التضرع، والبؤس منهمر
والفوانيس صفراء ذابلة.)
وهكذا تبقى أنظمة الدلالات قائمة في الصور البصرية الماثلة بوضوح.لقد كان الشاعر يتحدى الغربة بالحنين الى صحرائه الأولى أو بالفناء في الموت. وهذا ماحصل.
محمد طالب محمد ينقر أبواب الذكرى
محمد صالح عبد الرضا
إذا ما حاولنا تفسير تجربة محمد طالب محمد الشعرية من لمس مضمونها الذي يتخلله شكل يقدمه بصوره ورموزه وموسيقاه الداخلية والخارجية وإيماءاته الاستعارية وهو يمارس وظيفة اجتماعية إبداعية في شكل يتداعى من خلال المضمون والمعنى.لقد اعتمل الواقع الاجتماعي المستلب في تجربته الشعرية والعوامل الخاصة بالشعر كمجموعة من الخصائص النفسية والذاتية لذات متعددة المعالم في اختيار الكلمة والرمز والصورة فكانت مكوناته الشخصية صدى القدرة على التأثير والاقناع الجمالي، وأكد محمد طالب في شعره حقيقة استجابة الشعر الجديد للمفاهيم الانسانية الفوارة ليس بالمباشرة والتقريرية، وإنما باستخدام وسائل فنية تحتوي المضمون وتمثله وتعبر عنه في إطار الوجدان الاجتماعي.إنه من جيل الستينات الذي عَدَّه النقاد أكثر الموجات الشعرية إثارة وعمقاً في الشعر العراقي الحديث والذي جاء لحاجة فكرية وإبداعية لتجسيد رؤية جديدة للشعر والحياة وللعصر والتراث وسط ركام من الخيبات السياسية ومواجهة الاهتزازات الكبرى في العراق والعالم.والستينيون بحثوا عن أفق أغنى للقصيدة، وكان هاجسهم التجريبي متنوعاً في الرؤى التي تمتزج فيها المواقف بالنصوص، وكانت تأثيرات قراءة الفكر اليساري والوجودي تلقي بظلالها على الشعر الستيني حيث ضغط الحياة، وعذابات النفوس وبراعات البناء الشعري وتعددية أصواته.تعرفت على محمد طالب محمد وصديقي الشاعر شاكر العاشور أوائل عام 1966 شاباً طويل القامة كثيف الشاربين ذا ملامح هادئة دمثاً ودوداً جاداً في إخلاصه للشعر، متقناً لأسرار اللغة الشعرية تراثا ومعاصرة، وكنا نلتقيه لماماً فندرك رهافة حسّه وهو يتخذ قلمه ريشه ينقر بها على وتر الشعر الذي صار عنده ارتسامات الروح، ولقد بعدت بيننا السبل لكنه ظل دانياً منا بقصائده المترعة بالرؤى الخصبة.